اللحظة التي علم فيها النّاجون من الهجوم الصربي على سريبرينيتشا عن سقوط الملاذ الآمن للأمم المتحدة في توزلا، البوسنة، في تموز 1995. قتل أكثر من 7000 رجل بوسني وأجبر عشرات الآلاف على الفرار خلال الهجوم.
دليل المراسل للتّحقيق في جرائم الحرب: الإبادة الجماعيّة والجرائم ضد الإنسانيّة
إقرأ هذه المقال في
دليل مصادر
دليل المراسل للتحقيق في جرائم الحرب
دليل فصل مصادر
دليل المراسل للتّحقيق في جرائم الحرب: مقدّمة
دليل فصل مصادر
دليل المراسل للتّحقيق في جرائم الحرب: الهجمات على المدنيين
دليل فصل مصادر
دليل المراسل للتّحقيق في جرائم الحرب: هياكل القيادة
دليل فصل مصادر
دليل المراسل للتّحقيق في جرائم الحرب: تعقُّب مجرمي الحرب
دليل فصل مصادر
دليل المراسل للتّحقيق في جرائم الحرب: العثور على المفقودين
دليل فصل مصادر
دليل المراسل للتحقيق في جرائم الحرب: الأمن المادي والرقمي
ملاحظة من المحرر: هذا فصلٌ مقتطفٌ من دليل المراسل من إعداد GIJN للتّحقيق في جرائم الحرب، ويحتوي على بعض التّفاصيل الرسوميّة حول الحرب وغيرها من الفظائع. وتتضمّن نهاية هذا الفصل أيضًا مقابلة خاصة أجراها “أوليفييه هولمي” مع المراسلة “شيلا كاوامارا ميشامبي“، التي غطّت الإبادة الجماعية في رواندا.
ما زلت أذكرُ المرّة الأولى التي رأيت فيها متهمًا بارتكاب جرائم ضد الإنسانيّة وهو يعترف بالذنب في المحكمة. حدث ذلك عام 2008. كنتُ صحفيًا منذ بضع سنوات وغطّيت محاكماتٍ في المحكمة الجنائيّة الدّوليّة ليوغوسلافيا السّابقة المدعومة من الأمم المتحدة في لاهاي وفي غرفة جرائم الحرب البوسنيّة. إلا أن هذه المحاكمة كانت مختلفة.
كان “فاسو تودوروفيتش” يشبه إلى حد كبير غيره من المتّهمين الذين رأيتهم: كان يجلس محدودبًا، محدّقًا بالأرض، وبالكاد ينظر في عين أيٍّ ممن كانوا في قاعة المحكمة، ويجفل عندما ينادي الكتبة أو القضاة باسمه. ولكن بعد قراءة التّهم الموجّهة إليه، أوضح الادّعاء والدّفاع أن ضابط الشرطة السّابق – وهو من أوائل الأشخاص في البوسنة الذين اتُّهِموا بقتل مسلمي البوسنة في سربرنيتشا في تموز 1995 – كان جاهزًا للاعتراف بالذّنب.
هناك أنواع مختلفة من التحقيقات في الإبادة الجماعيّة والجرائم ضد الإنسانيّة. بعض التّحقيقات تجري بعد الأعمال الوحشيّة بأيّام وتكمن قيمتها في الكشف عن الجرائم بعد وقتٍ قصيرٍ من حدوثها ، بينما يتمّ نشر البعض الآخر بعد سنواتٍ من وقوع الجرائم.
وذكر الدّفاع سببين ليُحكمَ على “تودوروفيتش“ بالحدّ الأدنى للعقوبة وهو خمس سنوات – الأوّل هو أنّه وافق على الإدلاء بشهادته في كلِّ قضيّةٍ تتعلّق بالإبادة الجماعيّة في البوسنة والهرسك وأنّه أكّد على وجود تعليماتٍ واضحة بعدم الإبقاء على أيّ شخص على قيد الحياة في سريبرينيتشا قبل أسبوعين تقريبًا من بدء الهجوم الفعلي. وهذا عنصرٌ أساسيٌّ في عمليّةِ إثبات الطّبيعة المنهجيّة لجريمة الإبادة الجماعيّة في الإجراءات القضائيّة بحقّ بقيّة المتّهمين.
ثانيًا، سمعت المحكمة أنّه لم يكن لدى “تودوروفيتش” نفسه على ما يبدو نيّة الإبادة الجماعية في سريبرينيتشا، بل شاركَ في هجومٍ مُمَنهجٍ وواسع النّطاق أسفرَ عن مقتل أكثر من 1200 رجلٍ وصبيّ. وعندما عدّل المدّعي العام التّهمة الموجّهة إلى تودوروفيتش – من تهمة المشاركة في الإبادة الجماعيّة إلى تهمةٍ أقلّ وهي المسؤولية عن جرائم ضدّ الإنسانية – وافقَ المتّهم على الإقرار بالذّنب.
بلغ إجماليّ عدد القتلى في مذبحة سربرنيتشا، التي ارتكبتها قوّات الجيش والشّرطة الصّربيّة البوسنيّة، أكثر من 7000 رجلٍ وصبيّ، بينما تم طرد حوالي أربعين ألف من النّساء والأطفال وكبار السن من منازلهم. وقد أدين قرابة الخمسين شخصًا في لاهاي وفي عواصم دول غرب البلقان – سراييفو وبلغراد وزغرب – بسبب تلك الجرائم، الغالبيّة العظمى منهم أدينوا بنوعين من الجرائم “المنظّمة” بموجب القانون الجنائيّ الدّوليّ: الإبادة الجماعيّة والجرائم ضد الإنسانيّة.
جرائم الحرب
تمّ تجريم الإبادة الجماعيّة لأوّل مرة بعد الحرب العالمية الثانيّة مباشرة بموجب اتفاقيّة الأمم المتحدّة التي أقرّتها الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة بالإجماع في عام 1948. أبشع الجرائم في الحرب والسلام، هي الأصعب في الإثبات. هذا لأنه من أجل حدوث الإبادة الجماعية، يجب أن تكون هناك “نيّة للتّدمير، كلّيًا أو جزئيًا، لجماعة قوميّة أو إثنيّة أو عرقيّة أو دينيّة” وأن يتم هذا التدمير من خلال القتل أو سوء المعاملة أو فرض ظروف معيشية لا تطاق أو منع الولادات أو النّقل القسريّ للأطفال.
يمكن أن تحدث الجرائم ضدّ الإنسانيّة في وقت السّلم، لكنها أكثر شيوعًا في زمن الحرب. ولكي تقع جرائم ضد الإنسانيّة، يجب أن تكون الجرائم الأساسيّة – مثل القتل أو التعذيب أو الإساءة أو العنف الجنسي أو غيرها من الأعمال – جزءًا من هجومٍ واسع النّطاق أو ممنهجٍ ضدّ المدنيين. ويجب أن يكون مرتكب الجريمة على علم بهذا الاعتداء الواسع النطاق ويجب أن تسهم أفعاله في ذلك الهجوم بشكل ما.
المحاكمات على الإبادة الجماعية والجرائم ضدّ الإنسانية بطيئة. وحتى الآن، وبعد عقود من سريبرينيتشا، لا تزال هناك عدة قضايا منظورة متعلّقة بالإبادة الجماعيّة.
تمّ تعريف كلٍّ من الإبادة الجماعيّة والجرائم ضد الإنسانيّة بشكل واضحٍ كمصطلحات قانونيّة في نظام روما الأساسي لعام 1998، الذي أسّسَ المحكمةَ الجنائيّة الدّوليّة، ويمكن العثور على الجريمتين أيضًا في القوانين الجنائيّة للعديد من البلدان. ضمّنت دولٌ كثيرة جريمةَ الإبادة الجماعية في تشريعاتها المحلية، على الرغم من عدم استخدام جميعها تعريف الأمم المتّحدة. كما أدرجت دولٌ عدّة الجرائم ضد الإنسانيّة في تشريعاتها المحلية، خاصّة بعد المصادقة على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائيّة الدّوليّة.
وكما هو واضح من التّعريفات، فإن الإبادة الجماعيّة والجرائم ضد الإنسانيّة هي جرائم منهجيّة وتتطلّب أكثر من مجرّد إثبات وقوع أفعال فرديّة. وتُرتكب كلتا الجريمتين كجزء من نمط متكرّر، غالبًا على نطاق واسع، وتتطلّب الجريمتان عناصر تثبتُ نيةَ الجاني (الجناة) أو علمه بالأفعال، على سبيل المثال من خلال إثبات أنهم كانوا على علم بخطّةٍ أو سياسةٍ صريحةٍ أو ضمنيّةٍ في حالة الإبادة الجماعيّة.
وعلى الرّغم من أن الشّهادات الفردية على الوحشيّة ليست دليلاً كافيًا على الإبادة الجماعيّة أو الجرائم ضد الإنسانيّة، يتعيّن على الصحفيين وحتى المحققين جمعُ الأدلّة من النّاجين والضّحايا الأفراد. وهذا أمر بالغ الأهميّة لسببين.
أولا، في حين أن القوّات المسلّحة هي التي ترتكب الإبادة الجماعيّة أو الجرائم ضد الإنسانيّة في غالب الأحيان، فإن هذه الوحدات وقادتها نادرًا ما يتركون وثائق تكشف عن خططهم. ولكن الأدلّة على الجرائم غالبًا ما تأتي من الشّهادات الفرديّة التي قد تكشف عن خطّة أو سياسة ضمنيّة أو صريحة. ثانيًا، يمكن أن تكشف تجارب عددٍ من النّاجين عن أنماط متكرّرة أو تسلسل زمنيّ متشابه، مما قد يشير إلى جرائم ممنهجة تستهدف مجموعةً معيّنة.
يجب على الصّحفيين وغيرهم من المحققين أن يقوموا دائمًا بالنّقاط التّالية:
- خصّص وقتًا كافيًا للتحدُّث مع النّاجين ومنْ كانوا قريبين من مسرح الجريمة، أو أوّل من وصل إليه.
- اجمع الشّهادات لمعرفة ما إذا كان هناك تقاطع بين الرّوايات. هذا مهمٌّ جدًا عند التحقيق في الجرائم التي وقعت في الماضي، ولكنه ينطبق أيضًا على الإبلاغ عن المذابح أثناء حدوثها.
- حاول العثور على منظّمات تدعم الضّحايا والنّاجين حتّى تتحدّث مع عدد كبير من الشّهود.
- كن حذرا في استخدام اللغة. عند الإبلاغ عن أعمال قد تشكّلُ جرائمَ حرب، ولكنّها لم تُثبَت بعد في المحكمة، يجب على الصحفيين الإشارة إلى جرائم الحرب “المزعومة” أو “المحتملة”. (اقرأ المزيد عن هذا في الفصل الأول).
إن إجراء مقابلات مع الأشخاص المصابين بصدمات نفسيّة أمرٌ صعبٌ ولا ينبغي الاستهانة به. يجب أن يكون الصحفيّون على دراية بالآثار النفسيّة التي قد يتعرّض لها ضيف المقابلة نتيجة رواية الحدث الصادم من جديد. ولكن سماع مثل هذه الروايات قد يكون له تأثيرٌ على الصحفيين أيضًا. لدى مركز Dart للصّحافة والصّدمات النفسيّة وZero Tolerance موارد مفيدة لمساعدة الصّحفيين على الاستعداد، ولكن هناك عددا من الممارسات التي يتّبعها الصحفيون: وفِّر مساحة آمنة عند إجراء مقابلات مع الضّحايا؛ اشرح له سبب المقابلة؛ راقب ضيف المقابلة، وإذا لزم الأمر، أوقف المقابلة؛ لا تطرح أسئلة تحقيقيّة؛ واحرص على إشعار الشّخص بأنه مسيطرٌ على الموقف.
هناك العديد من المنظّمات غير الحكوميّة، المحليّة والدّوليّة، ومنظّمات المجتمع المدني التي تعمل مع النّاجين والضحايا والشهود. احرصْ على متابعة تقاريرهم والتحدُّث معهم حول ما يرونه واجمع المعلومات. من المنظمات غير الحكومية التي قد تكون مصدرًا قيمًا هي Trial International ولجنة العدالة والمساءلة الدوليّة ومؤسسة كلوني للعدالة، وغيرها من الجمعيّات المماثلة.
يجب أن يطّلع الصّحفيّون على المنظّمات الدّوليّة التي تراقب انتهاكات حقوق الإنسان في زمن الحرب، مثل منظّمة العفو الدّوليّة وهيومن رايتس ووتش ووكالات الأمم المتّحدة مثل مكتب منع الإبادة الجماعيّة الذي يتمثّل دوره في إصدار تقارير حول منع الإبادة الجماعيّة وحوادث الكراهية الممنهجة، وكذلك مكتب مفوّض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان. من الضروريّ أيضًا التّواصل مع المؤسّسات الدّوليّة التي تلعب دورًا مهمًا في جمع الأدلّة، مثل اللجنة الدّوليّة المعنيّة بالأشخاص المفقودين. هذه المنظمات لديها محققون في الميدان يمكن لشهاداتهم أن تسهم في بناء القصص الصحفيّة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تكون تقاريرهم مفيدةً في تبيُّنِ ما إذا كانت الجرائم قد وصلتْ حدًا ممنهجًا.
ولعلّ أهم نصيحة للتّحقيق في الإبادة الجماعيّة والجرائم ضدّ الإنسانيّة والإبلاغ عنها هي فهم إطار القانون الدّولي الإنسانيّ، والقانون المتعلّق بالحرب، والقانون الجنائيّ الدولي، وهي مجموعة القوانين التي تكوِّنُ المسؤوليّة الجنائيّة الفرديّة عن أخطر الجرائم الدّوليّة.
إن إجراء مقابلات مع الأشخاص المصابين بصدمات نفسيّة أمرٌ صعبٌ ولا ينبغي الاستهانة به. يجب أن يكون الصحفيّون على دراية بالآثار النفسيّة التي قد يتعرّض لها ضيف المقابلة نتيجة رواية الحدث الصادم من جديد.
إن فهم هذه القضايا أمر بالغ الأهمية، بمعنى أنّه يجب أن نتوخّى الدقة عندما نتحدث عن جرائم ممنهجة يمكن تصنيفها على أنها إبادة جماعيّة أو جرائم ضدّ الإنسانيّة. كما أن المحاكمات بحدّ ذاتها وسيلةٌ لجمع الأدلّة، والعثور على الرّوابط بين مواقع الجرائم والجناة، وفهم سياقات الأحداث التي تقع فيها الجرائم بشكلٍ عام.
يمكن محاكمة الأفراد بتهمة الإبادة الجماعيّة والجرائم ضد الإنسانيّة في المحكمة الجنائية الدولية، لكن لا يمكن لهذه المحكمة ممارسة اختصاصها إلا في حالات معينة، على سبيل المثال: في البلدان التي وقّعت على ما يسمّى بنظام روما الأساسي. على الرغم من أن الكثير من البلدان لم توقّع على النّظام الأساسي (بما في ذلك الصّين وإسرائيل والولايات المتّحدة) ، إلا أن المحكمة لا تزال نشطة ولديها قسم مصادر كبير للاطّلاع على العدالة الدّوليّة. محكمة العدل الدّوليّة، المعروفة أيضًا باسم “محكمة العالم”، هي محكمةٌ مختلفة تتعامل فقط مع مسؤوليّة الدّول. يمكن أن تحمّلَ الدّول (لا الأفراد) مسؤوليّةَ انتهاك القانون الدّوليّ، بما في ذلك الإبادة الجماعيّة، ولكن ليس الجرائم ضد الإنسانيّة أو جرائم الحرب، لأنها جرائمُ مسؤوليّة فرديّة.
وكثيرًا ما تجري المحاكمات على الجرائم الدوليّة – الإبادة الجماعيّة والجرائم المرتكبة ضدّ الإنسانيّة، ولكن أيضا جرائم الحرب، على سبيل المثال ضدّ المدنيين وأسرى الحرب – في محاكم دوليّة متخصّصة ومحاكم محليّة – دوليّة مختلطة. ومنها الآلية الدّوليّة لتصريف الأعمال المتبقّية للمحكمتين الدّوليتين، والدوائر المتخصصة في كوسوفو، والمحكمة الخاصّة بلبنان. وسبقَ أن أعلن الاتّحاد الأوروبي أنّه سيتم وضع نظام مماثل لمقاضاة جرائم الحرب المزعومة مثل الإبادة الجماعيّة والجرائم ضدّ الإنسانية في أوكرانيا المتعلّقة بالغزو الروسي.
وأخيرًا، فإن أكبر عدد من الإجراءات القضائيّة المتعلّقة بالجرائم الدّوليّة أثناء الحرب (بما في ذلك الإبادة الجماعيّة والجرائم ضدّ الإنسانيّة) تحدُثُ على المستوى المحلّي. ومع ذلك، وبسبب مبدأ الولايّة القضائيّة العالميّة على الجرائم الدّوليّة، فإن هذا لا يعني أن الإجراءات القضائيّة تحدث فقط في مكان وقوع الجرائم. على سبيل المثال، هناك الآن عشرات المحاكمات على جرائم ضد الإنسانيّة في سوريا تجري في جميع أنحاء أوروبا، وخاصة في ألمانيا، وهولندا حيث يقيم الآن المتّهمون أو الضّحايا والناجون.
ونظرًا إلى أن الإبادة الجماعيّة والجرائم ضد الإنسانيّة هي جرائم منهجيّة تتطلب فهمًا قانونيًا، فإن الإجراءات أمام المحاكم توفّر منبرًا مهمًا للوصول إلى الأدلّة، وجمع الشهادات، وفهم التّعقيدات اللازمة لإثبات النّمط المتكرر الضروري للواقع المنهجي لهذه الجرائم. وقد يساعد جمع الأدلة في محاكمات مجرمي الحرب كأفراد، مثل المسؤولين ذوي الرّتب الدّنيا، على إظهار نمطٍ أوسع من الانتهاكات التي يمكن أن تشير إلى أن المستويات العليا من السّلطة قد تكون مسؤولةً عن جرائم ضدّ الإنسانيّة أو الإبادة الجماعيّة.
ومن أجل جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات من هذه الإجراءات القضائيّة، يحتاج الصحفيون إلى تحسين أساليبهم وزيادة معرفتهم الأساسيّة بالقوانين ذات الصّلة والإجراءات والمحاكم نفسها. يعدّ دليل الإبلاغ الصّادر عن معهد الحرب والسلام مصدرًا قيّمًا حول التغطّية الصحفيّة الفعّالة للمحكمة. ويوفّر الدليل معلومات أساسيّة قيّمة عن كيفية عمل المحاكم، فضلا عن دليلٍ عمليّ حول كيفية تغطية المحاكمات بحدّ ذاتها. هنالك منظّمات متخصّصة في مراقبة المحاكمات، مثل مركز القانون الإنسانيّ في صربيا، وشبكة البلقان للصّحافة الاستقصائية في كوسوفو والبوسنة والهرسك، فضلاً عن وسائل إعلام دوليّة متخصّصة وصحفيين متخصصين في الجرائم الدّوليّة. وأخيرًا، هناك محامون متخصّصون في القانون الإنسانيّ الدّ ولي والقانون الجنائي الدولي، وبعضهم، مثل المحامي الأمريكي “بيتر روبنسون”، ينشرون ملخصات لقرارات المحاكم الدولية الأخيرة، والتي يمكن أن تكون مفيدة للغاية.
في إجراءات الجرائم الدّوليّة، تكون لوائح الاتّهام والأحكام علنيّةً بالكامل، وكذلك معظم جلسات الاستماع. وهذا يعني أن الغالبيّة العظمى من الأدلّة ستكون متاحةً للجمهور أيضًا، مما يوفّر وسيلة لجمع الأدلّة التي قد يكون من الصّعب الحصول عليها عادة، مثل المذكّرات الاستخباراتيّة والأوامر العسكريّة.
ومع ذلك، يجب على الصحفيين توخّي الحذر عند تغطية المحاكمات لفهم القرارات القانونيّة المتعلّقة بالسرّية وعدم الكشف عن معلومات أو هويّات الشّهود المحميين. يمكن للمحكمة الجنائيّة الدّوليّة ليوغوسلافيا السّابقة، وغيرها من المحاكم الدّولية والمحلّية التي تنظر في قضايا الإبادة الجماعيّة والجرائم ضدّ الإنسانيّة وجرائم الحرب، أن توجّه للصحفيين تهمة انتهاك حرمة المحاكم لإفشائهم مثل هذه المعلومات.
وقد يساعد جمع الأدلة في محاكمات مجرمي الحرب كأفراد، مثل المسؤولين ذوي الرّتب الدّنيا، على إظهار نمطٍ أوسع من الانتهاكات التي يمكن أن تشير إلى أن المستويات العليا من السّلطة قد تكون مسؤولةً عن جرائم ضدّ الإنسانيّة أو الإبادة الجماعيّة.
وأخيرًا، عند التّحقيق في الإبادة الجماعيّة والجرائم ضد الإنسانيّة، من المهم أن نتذكر أنه نظرًا لأن هذه الجرائم منهجيّة، فإن التّحقيق في الأنماط المحتَملة أمرٌ بالغ الأهميّة. وكما جاء في كتيب جامعة إسيكس “الإبلاغ عن عمليّات القتل بوصفها انتهاكات لحقوق الإنسان“: “يمكن العثور على أنماط في الوكالة المعنية (مثل فرع معيّن من قوات الأمن، أو أفراد من مركز شرطة معيّن)، ونوع الشخص المستهدف (مثل الأطفال، ومجموعات عرقيّة معيّنة)، والظّروف التي تحدث فيها عمليّات القتل (على سبيل المثال، يأخذ رجال ملثّمون الضّحيّة من منزله في منتصف الليل، ويأخذونه في شاحنة بدون لوحة أرقام، ويُعثر على الجثة ملقاة على بعد بضعة أميال بعد بضعة أيام) أو حتى طريقة القتل. يجب عليك مراقبة مثل هذه الأنماط وتطوير نظام للاحتفاظ بسجلات فعالة وواضحة لشرحها. يمكنك إنشاء قاعدة بيانات و/أو شبكة مع المنظمات غير الحكوميّة الأخرى التي تتعامل مع حالات مماثلة. من المحتمل أن يؤدّي تجميع مثل هذه المعلومات إلى دعم قضيتك”.
إن الإبادة الجماعيّة والجرائم ضد الإنسانيّة تتطلّب بطبيعتها قوّةً بشريّة. وكلما كانت القوات المشاركة أكبر، زاد احتمال وجود مصادر خارج النّظام العسكري ممن قد يكونون شهودًا مفيدين: أشخاص مثل سائقي الشّاحنات، والأطباء، والطّهاة، وطاقم التنظيف، وما إلى ذلك. وهذا يعني أيضًا أن هناك مجموعة أكبر من المؤسّسات التي قد يكون لديها وثائق ضروريّة لإثبات بعض الانتهاكات، مثل وكالات الدولة أو المقاطعة أو الإقليم، والوزارات والشّرطة والمحاكم وما إلى ذلك. يمكن استخدام قوانين حق الحصول على المعلومات بشكل منهجي ومستمرّ لجمع أكبر قدرٍ ممكن من الأدلّة الدّامغة.
0المحاكمات في قضايا الإبادة الجماعيّة والجرائم ضدّ الإنسانية بطيئة. تستغرق القضايا وقتًا طويلاً في المحاكم، مما يعني أنها يمكن أن تستمرّ لسنوات: متوسط مدّة المحاكمة أمام محكمة الدّولة البوسنيّة هو عدّة سنوات. وحتى الآن، وبعد عقود من سريبرينيتشا، لا تزال هناك عدة قضايا جارية تتعلق بالإبادة الجماعيّة.
لقد رأيت “تودوروفيتش” واستمعت إلى شهادته عدة مرات. في النّهاية، حُكم عليه بحكم قصير – ست سنوات فقط – لكنّه أصبح شاهد ادّعاء رئيسيًا في ما لا يقلّ عن اثنتي عشرة قضية، مع شهادته الداخلية التي تثبت الأساس لإدانات متعدّدة.
دراسات الحالة
هناك أنواع مختلفة من التّحقيقات في الإبادة الجماعيّة والجرائم ضد الإنسانية. بعضها يحدث في غضون أيام من الفظائع وقيمتها تكمن في الكشف عن الجرائم بعد وقتٍ قصيرٍ من وقوعها، في حين يتمّ نشر البعض الآخر بعد سنوات من وقوع الجرائم ويكشف عن أسماء الجناة المشتبه بهم – ولكن لم تتم مقاضاتهم. يستخدم البعض أساليب مفتوحة المصدر والبعض الآخر يعتمد على المقابلات التّقليديّة ومن جمع الوثائق ذات الصلة.
الإبادة الجماعية في سريبرينيتشا
من خلال تحليل عشرات الأحكام المتعلّقة بالإبادة الجماعيّة في سربرنيتشا والوثائق والسجلات العسكريّة والشّهادات، قامت شبكة البلقان للتّقارير الاستقصائيّة في البوسنة والهرسك (BIRN BiH، حيث أعمل) بتحديد هويّة ثلاثة قادة سابقين للشّرطة العسكرية من صرب البوسنة ذكرهم الشهود وفي الوثائق على أنهم متورّطون في القبض على مسلمي البوسنة من سربرنيتشا ومرافقتهم إلى مواقع الإعدام الجماعي – لكن لم تُوجَّه التُّهم إليهم. يُظهر التّحقيق الدور الذي لعبته وحدات الشّرطة العسكريّة في المذبحة وكيف أمر القادة مرؤوسيهم باعتقال ونقل المدنيين المسلمين إلى مواقع القتل الجماعي. إلى جانب المقال، نشرت BIRN BiH الأدلّة التي تم جمعها من سجلات المحكمة. في عام 2022 ، فازت سلسلة التّحقيقات بالمركز الثاني في جوائز Fetisov الدولية في فئة المساهمة البارزة في السلام. ولكن الأهم من ذلك حدث بعد عامين، حيث وُجّهت تهمة التوّرط
في الإبادة الجماعيّة. لأحد القادة العسكريين.
ضربات صواريخ كروز الروسية على أوكرانيا
تشتهر منصّة Bellingcat باستخدام تقنيات البحث مفتوحة المصدر لنشر تحقيقات معمّقة حول مناطق النزاع. في عام 2022، نشرتْ عددًا من التّحقيقات التي فضحت بعض الرّوايات الروسيّة المتعلّقة بأوكرانيا وتسمية الأشخاص الذين يُعتقد أنّهم مسؤولون عن الفظائع الجماعيّة. يبحث أحد أهم التّحقيقات في ضربات صواريخ كروز الروسية على أوكرانيا. ووفقًا لهذه التحقيقات، فإن المجموعة التي يُعتقد أنها مسؤولة هي جزء من “مركز الحوسبة الرّئيسي لهيئة الأركان العامّة” التّابع للقوّات المسلّحة الرّوسيّة والذي يعمل من مقرّ وزارة الدّفاع في موسكو ومقر الأميرالية في سانت بطرسبرغ. استخدمت Bellingcat البيانات الوصفيّة للهاتف لإثبات أن الاتّصالات بين هؤلاء الأفراد ورؤسائهم ازدادت قبل وقتٍ قصيرٍ من عدّة ضربات بصواريخ كروز الروسية عالية الدّقّة التي قتلت المئات وحرمت الملايين في أوكرانيا من الكهرباء والتّدفئة. ويمكن أن يُظهر هذا النّوع من التّحقيقات الطّبيعة المنهجيّة للجرائم التي تُرتكب، والتي يمكن أن تساعد بدورها في الكشف عن أنماط الجرائم التي قد تشكّل جرائم ضد الإنسانيّة أو إبادة جماعيّة.
معسكرات اعتقال الأويغور في الصين
في صيف عام 2022، أصدر مكتب المفوّض السّامي لحقوق الإنسان التّابع للأمم المتّحدة تقريرًا معمقًا يشير إلى أن “مدى الاحتجاز التّعسفيّ والتّمييزي للأويغور وأعضاء الجماعات المسلمة” في منطقة شينجيانغ الصينيّة “قد يشكّل جرائم دوليّة، ولا سيما الجرائم ضد الإنسانيّة”. تأتي هذه النّتائج بعد سنوات من التّحقيق الصّحفي الذي كشف عن أهوال مواقع الاحتجاز الحكوميّة الصينيّة المستخدمة لمكافحة “التطرُّف العنيف والانفصاليّة”. في عام 2020، تم اختيار “ميغا راجاغوبالان” و”أليسون كيلينغ” و”كريستو بوشيك” كمرشحين نهائيين لجائزة بوليتزر عن سلسلتهم لـ BuzzFeed News التي تكشف عن النظام المترامي الأطراف لأكثر من 260 موقع احتجاز بُنيت منذ عام 2017. استند التّحقيق إلى تقنيات OSINT، حيث استخدمت “كيلينغ” مهاراتها كمهندسة معماريّة ومحللة جغرافيّة مكانيّة، إلى جانب شهادات النّاجين التي جمعها زملاؤها، لعرض الطبيعة المتعمَّدة والمنهجيّة للاستهداف الصّيني للمسلمين وسجنهم.
تركيز خاص: الدّروس المستفادة من تغطية الإبادة الجماعيّة في رواندا
أجرى المقابلة” أوليفييه هولمي”
كانت تغطية “شيلا كاوامارا ميشامبي” للإبادة الجماعية في رواندا لصحيفة “نيو فيجن” اليومية الأوغندية أوّل تجربة لها في تغطية الحرب. كما كانت آخر تجربة لها أيضًا. أخبرتْ GIJN أنها تركت الصحافة بعد ذلك، لأنها شعرت أنها بحاجة إلى الابتعاد نهائيًا عن الفظائع التي رأتْها. “هذه المشاهد لا تغادرك مدى الحياة”، كما تقول.
وتضيف أن الاستشارة النفسيّة قد تكون ضروريّة للكثيرين الذين يعانون من مثل هذه الصّدمة.
وبالنّظر إلى تجربتها في تغطية أحداث عام 1994، تقول “كاوامارا ميشامبي” إن المراسلين الأجانب، بمن فيهم هي نفسها، كانوا يعتمدون بشكلٍ مفرط على الجبهة الوطنيّة الروانديّة. وتتذكر أن الجبهة الوطنية الروانديّة، التي كانت تقاتل القوّات الحكوميّة التي ارتكبت الإبادة الجماعية، وكان يقودها الرّئيس الرّواندي الحاليّ “بول كاغامي”، كانت تتمتّع بعلاقات عامة جيدًا جدًا. وكانت الجبهة تأخذ الصّحفيين الأجانب الذين اختارتهم بعناية لزيارة المقابر الجماعيّة، ثم توجّه المراسلين لإجراء مقابلات مع أفراد مختارين يُزعم أنهم شهدوا المجازر، ويتمّ ذلك دائمًا بحضور ممثلٍ عن الجبهة الوطنيّة الروانديّة. وتقول: “كصحفيين، كنّا جميعًا خاضعين للرّقابة. “الجبهة الوطنية الرواندية كانت تتولّى دفّة القيادة”.
وتضيف: “لقد كانت مشكلة كبيرة. عندما يصرّ الصّحفيون على التعمّق أكثر، يقولون عندها [ممثلو الجبهة الوطنيّة الروانديّة]: ‘عليكم أن تتحركوا من هنا'”.
أشعرتها تلك الزيارات بأنها تُلقَّمُ بشكلٍ واضحٍ روايةً مصطنعة. وقالت إنها حاولة، نظراً لذلك، أن توضح في تقاريرها أنها كانت تغطي جانبًا واحدًا فقط من القصّة، وأن المناطق الرمادية لا تزال قائمة. وتقول: “في أوقات الحرب، عندما لا تتمكن من العبور إلى الجانب الآخر، من المحتمل أن تكون قصّتك محرّفة”.
وإلى جانب المذابح التي أخبروها عنها في ذلك الحين – التي ارتُكبت ضدّ التّوتسي وضدّ الهوتو المعارضين للرئيس الرّاحل “جوفينال هابياريمانا” – ظهرتْ منذ ذلك الحين أدلّة على الفظائع التي ارتكبتها الجبهة الوطنيّة الروانديّة في رواندا وفي جمهورية الكونغو الديمقراطيّة المجاورة. وتقول: “لقد استغرق الأمر عقودًا للكشف وتفكيك ما لم نتمكّن من وضع أصابعنا عليه سنة 1994”.
ومع معاملة الجبهة الوطنيّة الروانديّة للصحفيين على أنهم “سياح يتجوّلون مع مُرشِد”، على حد تعبيرها، تقول إنها لم تكن لتتمكّن أبدا من رسم صورة شاملة ودقيقة مثل تلك التي أخذت تتكشّف ببطء منذ عام 1994. هذا درسٌ في الشكّ والتّواضع للصّحفيين الذين يغطون الإبادة الجماعيّة، وتتابع: “في الصّحافة، نحتاج إلى أن نكون منفتحين ونترك مجالاّ للأسئلة التي لم تتم الإجابة عليها. دع شخصًا آخر يكمل ما بدأتَه، ويستقصي أكثر”.
دينيس دزيديتش، هو المدير التنفيذي ومحرر شبكة التقارير الاستقصائية في البلقان في البوسنة والهرسك (BIRN BiH)، وهي وسيلة إعلامية فازت بجائزة الصحافة الأوروبية الخاصة لعام 2020 لتقاريرها عن حرب البوسنة. وهو صحفي منذ عام 2006، وعمل في معهد تقارير الحرب والسلام في سراييفو ولاهاي للتحقيق في قضايا العدالة الانتقالية وتغطية محاكمات جرائم الحرب المتعلقة بالصراع 1992-1995 في البوسنة والهرسك.
رون هافيف، مؤسسة VII رون هافيف هو مدير ومؤسس مشارك لمؤسسة VII ومؤسس مشارك لوكالة VII Photo Agency. في العقود الثلاثة الماضية، غطت هافيف أكثر من خمسة وعشرين صراعًا وعملت في أكثر من مائة دولة. أعماله، التي فازت بالعديد من الجوائز، معروضة في المتاحف والمعارض في جميع أنحاء العالم.