

GIJN تصميم: مارسيل لاو ل
الأساس العلمي للتّأثير
إقرأ هذه المقال في
النّصيحة الأولى: أنت تتعرّض للتّأثير.
“نحن باحثون عن الأنماط المتكرّرة، مؤمنون بعالمٍ متماسك.” – عالِم النّفس الحائز على جائزة نوبل “دانيال كانمان”
من أول الأشياء التي تتعلّمها كصحفي استقصائيّ هو الحذر من التحيزّات اللاواعية، بما في ذلك ما يعرف بـ “الرسوّ”(الترّكيز على معلومات قليلة في اتّخاذ القرار) أو “الأسر المعرفيّ” (الانشغال بعنصر واحد عن بقية العناصر المحيطة). وقد أظهر علم الأعصاب أننا نميل إلى إعطاء قيمة أكبر للتّأكيد، وقيمة أقل لنقضِ المعلومات. مثال على ذلك هو تجربة الغوريلا الخفّي ، حيث طُلب من أخصائيي أشعّة العثورُ على عقيداتٍ رئويّة في صور أشعّة مقطعيّة. 20 من أصل 24 أخصائي أشعة فاتتهم صورةٌ مرسومةٌ باللون الأبيض لغوريلا أدخلها الباحثون في الصور، على الرغم من أن صورة الغوريلا كانت أكبر بـ 48 ضعفًا من العُقيدات الرئويّة التي طُلب منهم العثور عليها.
في بعض الحالات، كلما كان التوقُّع أو الفائدة أو التّهديد بالخسارة أقوى، كلما كان التّأثير أقوى على عمليات تفكيرنا، بالرّغم من أنّنا مقتنعون بأننا موضوعيّون. في مجال الصّحافة الصحية، هنالك خطورة كبيرة لأن تقتنع ببعض الروابط التي تبدو جذّابة ولكنها معيبة، وللأمر عواقبه المهمّة.
يدعمُ علمُ التّأثير تضاربَ المصالح، وهو أمر منتشرٌ في العلم والطّب، وقد خضعَ تأثيرُه على نتائج الدّراسات ومواقف الممارسين لدراساتٍ متعمّقة. هناك كمية كبيرة من الدراسات المنشورة حول هذا الموضوع، ولكن يمكنك أن تبدأ بقراءة الاستعراض المنهجي “نطاق وتأثير تضارب المصالح الماليّة في البحوث الطبّية الحيوية. ولا جدال في التأثير السّلبي لهذه الصّراعات، ولهذا فإن الكشف عنها إلزاميّ في الغالب، حتى لو لم يتم إنفاذه دائماً أو باستمرار.
من المهم أيضًا فهم الأسر المعرفيّ لأن أبطال التّحقيق قد يقولون لك أنّهم “قادرون على التّعامل” مع تضارب المصالح. في الواقع، أظهرت الأبحاث أنّ هذا غير ممكن، حيث أن التأثير يجري على مستوى اللاوعي. وكما قال الخبير الاقتصادي السّلوكي “جورج لوينشتاين”: “سيوجّه تضاربُ المصالح سلوكَ الطبيب حتمًا، مهما كان بعض الأطباء شرفاء وأصحاب نوايا طيّبة. وقد يشوّش التّحيّز على خياراتهم، أو قد يبحثون عن بيانات تدعم مصالحهم الشخصية ويؤكّدونها دون وعي”.
النّصيحة الثانية: احذر من قادة الرّأي
بالرّغم من المكاسب التي حقّقها الطبّ القائم على الأدلّة، إّلا أن الطبّ القائم على الشخصيّات المرموقة ما يزال موجودًا. الفرق بين المصطلحين المعروفين إلى حدٍّ كبير في المجتمع الطبّي العلميّ، مشروحٌ بشكل وافٍ في هذا الدّليل من Students 4 Best Evidence. أي أننا ببساطة: نميلُ إلى الإيمان بـ”الخبراء”. وكلما طالتْ سيرهم الذاتيّة، كلّما حمّلنا المزيد من المصداقيّة لما يقولونه. وعلاوة على ذلك، فإنّ علاقتنا مع الأطباء محكومةٌ بظاهرة تُعرف باسم “تأثير الرّداء الأبيض” (اللابكوت). يعتمد قطاع صناعة الأدوية على ذلك في استراتيجياته التّسويقيّة حيث يلعب قادة الرّأي المرموقين دورًا حاسمًا. قادة الرّأي هؤلاء هم أطباء وعلماء يختارهم قطاع صناعة الأدوية لأن سيرهم الذاتية وانتماءاتهم يُنظر إليها على أنّها مرموقة. وكثيرًا ما يكونون، في نفس الوقت، مستشارين للقطاع والحكومة والمنظّمات الدّولية مثل منظّمة الصحّة العالميّة.
تُشْرِكُهم الشّركات في كلّ خطوة من دورةِ حياةِ المنتَج، ويميل الصحفيون للذهاب إليهم للحصول على الاقتباسات والنّصائح، نظرًا لأنّهم يُعتبرون “خبراء في المجال”. يملأُ قادةُ الرّأي هؤلاء مجالسَ الجمعيّات الطبية، ويكتبون المبادئ التّوجيهية، ويدرّسون في كلّيّات الطّب، ويدرّبون في برامج التّعليم الطبّي المستمر.
كشفُ تضاربِ المصالح أمرٌ جديرٌ بالاهتمام ومصدرٌ للعديد من القصص الجيّدة. المصالح الماليّة ليست المجال الوحيد الذي ينبغي التّحقيق فيه، فهنالك أمور أخرى تلعب دورًا مثل السُّمعة، والمكانة، والألقاب، ونيل استحسان الآخرين.
يُطلب في عدّة بلدان من مصنّعي الأجهزة الطبية والأدوية بموجب القانون أن يكشفوا عن تفاصيل مدفوعاتهم للأطّباء والعلماء. هذه البيانات متوفّرة على قواعد بيانات مثل Open Payments في الولايات المتحدة أو Transparence Santé في فرنسا.
الزّيادةُ الأخيرة في الوعي العام والتّغطية الإعلاميّة لأموال الأدوية، دفعت القطاع إلى إطلاق مبادرات “شفافيّة” مثل مدوّنة التّعاون الصيدلاني الصّادرة عن “الاتّحاد الأوروبيّ للصّناعات والجمعيّات الصيدلانيّة”. عادةً ما يكون من الصّعبِ تحليلُ مجموعاتِ البياناتِ هذه، حيث يتمّ تقديم المعلومات في أشكال مختلفة ونشرها على مواقع الشركات. مشاريع مثل مشروع بروبوبليكا “دولارات للأطبّاء” ومشروع CORRECTIV “يورو للأطباء” حاولت أن تتجاوز هذه القيود. وبما أنّ سوق الصحّة سوقٌ عالميّ، فمن الجيّد البحث على نطاق واسع إن كانت دفعةٌ قد أُعطيت لأحد قادة الرّأي من قِبَل مكتب أو فرع آخر للشركة.
من الأفضل أن تسأل خبيرك عن تضارب المصالح لديه، وأن تقوم ببحثك الخاصّ أيضًا. يمكنك البدء بالتّحقُّق مما تمّ الإعلان عنه في اللجان الاستشاريّة والمنشورات. لا تكتفِ بذلك، فعادةً ما يكون قادة الرّأي انتقائيين في ما يفصحون عنه. ابحث عن ملخّصات وبرامجِ المؤتمرات الطبّيّة، والبيانات الصّحفيّة للقطاع، والقصص الإخباريّة. لا تنسَ أن تراجِع سجل براءات الاختراع Justia وأي منظّمة ترعى برنامجًا بحثيًا يترأسها خبيرك.
التضارب في الإفصاح عن المصالح تحكمه قيودٌ، ولا تروي القصّة الكاملة. وتُبيِّن دراساتٌ كثيرة أن البيانات التي يقدّمها المؤلّفون وأعضاء اللجنة الاستشاريّة غالبا ما تكون كاذبة و/أو غير كاملة. كما أن المجلات العلميّة نادرًا ما تطبّق العقوبات المنصوص عليها في تعليماتها؛ ولا تقيّم المجلّات والمؤسّسات الطبية بشكلٍ روتيني دقّةَ بيانات المصالح، ولا تفرض عقوباتٍ على البيانات النّاقصة أو غير الدّقيقة. الخلاصة: بيانات تضاربِ المصالح لا يُمكن الاعتماد عليه.
وكما أشارت الأكاديميّة السويسريّة للعلوم الطبية،فلا يمكن للشفافيّة أن تكون هدفًا بحدّ ذاتها: “ما يثير إشكاليّةً أخلاقيّة حول تضاربِ المصالح لا يقتصر على كونها غير مرئيّة، بل أنها يمكن أن تؤثر على سلوك الباحثين الطبّيين وغيرهم من العاملين في المجال الطبّي في واجهة العلاج/البحث بطريقةٍ تتعارض مع المصالح الفُضلى للمرضى”.
كما يلعب تضارب المصالح دوراً في ما يسمّى“التّرويج للمرض” – الذي عرّفته “مكتبة العلوم العامّة” بأنه “بيع المرض من أجل زيادة مبيعات الأدوية”. كما أنه عامل يوثر على الإفراط في التّشخيص، الذي يعتبره بعض النّقاد أكبر خطرٍ على أنظمة الصحّة العامّة في البلدان الغنيّة.
اقرأ عن الأمور التي ينطبق عليها ولا ينطبق عليها تعريف “الإفراط في التّشخيص” في ورقة المعلومات الصّادرة عن معهد الجودة والكفاءة في الرّعاية الصحّية. ومن الجيد أيضًا قراءة: ما يُمرِضُنا هو وباء التّشخيص المنشور في صحيفة نيويورك تايمز، والعدد الخاصّ بالتّرويج للأمراض من مجلّة PLOS، وسلسلة British Medical Journal تحت عنوان الكثير من الأدوية.
هناك حركة عالمية للأطباء، بدأت بعد سنة 2000 مع حملة “لا لدعوات الغداء المجانية”، أقرّوا فيها بتأثير تضارب المصالح وتعّهدوا بعدم قبول أي هدايا من قطاع صناعة الأدوية والاعتماد على المصادر غير الترويجيّة لمعلومات وصف الأدوية. هناك منظّمات عالميّة تضمّ علماء وأطبّاء يعملون على الوقاية من الإفراط في التّشخيص (راجع الملحق)؛ هؤلاء الأشخاص على درايةٍ جيّدة بالطب القائم على الأدلّة واستراتيجيات التّسويق المتبّعة في القطاع.
يتوفّر على موقع Lown Institute قائمة بخبراء الصحة المستقلّين عن قطاع صناعة الأدوية. أنُشئت القائمة لأوّل مرة من قِبَل الصحفيّتين “جين لينزر” و”شانون براونلي” حيث أعلنتا عن المشروع في مقال نُشر سنة 2008 في British Medical Journal بعنوان مع ذِكْر الأسماء: هل يوجد بيننا طبيب (غير منحاز)؟ وقد انضمّ مؤخراً إلى منسقي القائمة الأربعة “جين لينزر” و”غاري شويتزر” و”شانون براونلي” و”ادريان فوغ – بيرمان”، مؤلفتا هذا الدليل “كاثرين ريفا” و”سيرينا تيناري”. كما نُشرت القائمة على موقع HealthNewsReview.org وعلى موقع جين لينزر على شبكة الإنترنت.
انتبه لاستراتيجيات التّسويق مثل حملات التّوعية بالأمراض التي تهدفُ إلى خلقِ سوقٍ لدواءٍ معيّن (“اسأل طبيبك . . . “) ، واحذر من منظّمات المرضى المموّلة من قطاع صناعة الأدوية. هذا العرض المضحك من قِبَل “ليزا شوارتز” و”ستيفن ولوشين” في مؤتمر “الوقاية من الإفراط في التّشخيص” سنة 2018، يوضّح هذه الأساليب بشكل ممتاز. هنالك الكثير من الأبحاث المنشورة حول هذا الموضوع، فضلاً عن قاعدة بيانات من Kaiser Health News: وصفة طبية للسلطة، والتّحقيق في العلاقات بين جماعات مناصرة المرضى وشركات الأدوية الكبرى.
ومن الأمثلة على حملات التّوعية ومنظّمات المرضى التي تخدمُ أجندات قطاع صناعة الأدوية هي المادة المنشورة على Mother Jones “الكشف عن وثائق تبيّن كيف اختلقت شركة بوردو ‘حركة الألم’، والمنشورة على الغارديان من أستراليا “أبحاث تكشف أن شركات الأدوية أنفقت 34 مليون دولار على مجموعات مناصرة المرضى”.
النّصيحة الثالثة: تضارب المصالح في الصّحافة الصّحيّة.
تتلقى بعض المنظّمات الإعلاميّة ومنظّمات الصّحافة الصّحية تمويلاً من نفس القطاع الذي يغطّونه بعملهم الصحفيّ، مما يثير قضايا مهمّة حول تضارب المصالح.
شارك في رعاية “المؤتمر العالمي للصحفيين العلميين” لعام 2019 شركة “جونسون آند جونسون”،حيث أقامت الشركة مأدبة غداء وتعهّدت بتقديم تبرّعات إضافية إذا تمّ استخدام هاشتاج حملتها #ChampionsofScience (#أبطال_العلم) على وسائل التّواصل الاجتماعي. وفي المؤتمر نفسه، قدمت شركة “باير” مأدبة غداء بعنوان “رفع مستوى الاستدامة والشفافيّة”.
مؤسسة بيل وميليندا غيتس (وهي أكبر مؤسّسة خاصّة في الولايات المتحدة) ناشطة في تمويل الصّحافة الصّحية. المؤسسة التي تضمّ أهدافها المعلنة تعزيز الرّعاية الصّحية، قدّمت تبرّعات ضخمة لتطوير أدوية ولقاحات ونظم مراقبة صحّيّة جديدة. كما تمتلك أسهم وسندات في شركات أدوية مثل Merck و GlaxoSmithKline و Eli Lillyو Pfizer و Novartisو Sanofi بحسب ما جاء في تحقيق منشور عام 2020 على The Nation من قِبل “تيم شواب”. المؤسسة هي المتبرّع الرّئيسي منذ عام 2015 لمركز Bhekisisa للصّحافة الصحيةفي جنوب أفريقيا، وتساهم المؤسسة في قسم التّنمية العالميّة في صحيفة الغارديان، وتقدّم المِنَح المخصّصة للتّقارير الصحية لمركز الصّحافة الأوروبيّ، والمركز الدّولي للصحفيين، بدعم من “جونسون آند جونسون” أيضًا. لمزيد من المعلومات حول عمل مؤسسة غيتس مع الصّحافة، راجع المادتين المنشورتين على Columbia Journalism Review من قِبل “روبرت فورتنر”: “كيف لحق “راي سواريز” برَكْب الصحّة العالمية”، و“الشبكة تتّسع“.
النّصيحة الرّابعة: اعثر على الرابط المشترك بين الأمور.
قد نستسهل التركيز على “منْ نشتبه بهم دائمًا” عند الاستقصاء في الصحّة والطبّ: الشّركات المصنِّعة وشركات التّأمين واللاعبين البارزين. ومع ذلك، فالواقع أكثر تعقيدًا. في الوقت الذي باتت في استراتيجيات التسويق التي يتّبعها اللّاعبون في قطاع الصحّة أكثر تطورًا، ونظراً لأنهم يتّخذون قرارات تؤثّر على الصحّة العامة، صار على الصحفيين أن يمحّصوا أكثر وأن يستقصوا عن اللاعبين العديدين المنخرطين في النظام.
في Re-Check.ch أدركنا أنه بات علينا أن نُدرِجَ “الصّورة الكبيرة” في بحثنا. وهذا يعني التحقيق في أوسع نطاقٍ ممكن من المؤسسات، بما في ذلك المنظّمات غير الحكومية ووسائل الإعلام. ومن الأمثلة العملية على ذلك هو تحقيقنا الذي يضمّ خمسة أجزاء (باللغة الفرنسية) عن المصالح المحيطة ببرامج فحص التّصوير الشعاعي للثدي – وهي متاهةٌ معقّدة تضمّ الكثير من جماعات الضغط. وحصل التّحقيق على جائزة من الأكاديميّة السويسريّة للعلوم الطبية.
وقد طوّر الباحثان الكنديان “سيرجيو سيسموندو” و”مارك أندريه غانيون” زاوية “الصّورة الكبيرة”، ووصفوها بأنّها “إدارة الشبح”. وتفترض أن شركات الأدوية، بسبب نماذج الأعمال الحاليّة، بدلاً من أن تركّز على إنتاج علاجات مبتكرة، فإنها تركّز أكثر على التّأثير على المعرفة الطبية، وتشكيل السرديّات العلميّة، والتّأثير على الخبراء من خلال تغذية تضارب المصالح، والهيمنة على الأنظمة وعلى صانعي السّياسات، وتشكيل وسائل الإعلام والثّقافة بطرقٍ تمكّنهم من زيادة الأرباح،. وهذا يعني، على حدّ قول “غانيون”، أن “نموذج الأعمال المهيمن في قطاع الأدوية يقوم على التّرويج الهائل للعقاقير التي غالباً ما لا تمثّل أيّ تقدُّمٍ علاجيٍّ ذي قيمة. ولذلك يتمّ التعامل مع البحوث السريريّة وكأنّها حملة ترويجيّة. وتُستخدم البيانات التي يتمّ الحصول عليها من البحوث السريريّة في المقام الأوّل لتعزيزِ ودعمِ المبيعات بدلاً من تحسينِ سلوك وصفِ الأدوية”. (ملاحظة: مؤلفتا هذا الدليل “كاترين ريفا” و”سيرينا تيناري” تعملان مع الباحثَين على مشروعٍ بحثي عن “إدارة الشّبح“.)
هذه الجهود التسويقيّة لا تكتفي بتشكيل معرفةِ الأطباء من الحالة وعاداتهم في وصفِ االدواء (المعرفة الطبّيّة)، بل تسعى هذه الجهود أيضًا لتشكيل النّقاش السياسي وعادات النّاس الفكريّة. إدارة الشبح تتضمّن منهجيّة فعالة للبحث بعمق، والتّطبيق العملي لهذه النظريات ينتج تقديمات مرئية مذهلة كهذه.