كيف طوّر الصحفيون التونسيون نموذجا عمليا يمكّنهم من الاستقصاء
صحفيو إنكفاضة يحضرون ورشة عمل حول أدوات قياس الجمهور في مكاتبهم في يناير 2020. الصورة: إنكفاضة
في أعقاب الثورة التونسية عام 2011، أدى مناخ حرية التعبير إلى خلق ميدانٍ نشطٍ للأفكار، إلّا أن الصحافة الاستقصائية تأخّرت عن الركب. عملَ عددٌ من الصحفيين التونسيين على تغيير ذلك من خلال تأسيس وسيلة إعلامية مستقلّة “إنكفاضة” التي جربت العمل باستخدام البيانات ورواية القصص صوتيّاً وعملت جاهدة لتنويع مصادر دخلها لحماية استقلاليتها. ليلى فوردي كتبت للشبكة العالمية للصحافة الاستقصائية GIJN عن “إنكفاضة”.
تأسست “إنكفاضة” كوسيلة إعلاميّة مستقلّة بعد مرور ثلاث سنوات على الثورة التونسية في عام 2011، وهو الوقت الذي كانت تتمتع فيه البلاد بمناخ حريّات غير مسبوق: انتشرت البرامج الحوارية انتشار النار في الهشيم، ونُشِرالغسيل الوسخ، وتدفقت الآراء بعفويّة.
لكن تونس كانت تعاني أيضا من ندرة المعلومات، بحسب مالك الخضراوي، مدير “إنكفاضة” وأحد مؤسسيها: “كان بإمكان الجميع أن يتكلموا، وكان الناس يكتبون المقالات من الصباح إلى المساء، لكن لم تكن هناك معلومات تُذكر عما يحدث حقًا في تلك اللحظة وما هو هذا النظام الذي ينهار”
فريقُ التّحرير المُؤَسِّس لـ”إنكفاضة”، وهم مجموعة من الصحفيين الذين عملوا معاً في وسيلة الإعلام المستقلّة نواة، أرادَ تجاوُز الاستقطاب بين الإسلاميين والعلمانيين الذي هيمن على السياسة والإعلام في تونس في مرحلة ما بعد الربيع العربي. وبدلاً من الأخبار ومقالات الرأي، عملوا على البحث في القضايا التي تؤثّر على حياة الناس، كالفساد والتهرّب الضّريبي، بالإضافة إلى القضايا الاجتماعيّة كالإرهاب والحصول على المياه والاتّجار بالبشر.
أنشأوا منظّمة غير ربحية تحت اسم “الخط” لتكون “مساحةً للتفكير في مستقبل الصحافة في العصر الرقمي”. في عام 2014، أطلقت هذه المنظمة موقع “إنكفاضة” باعتباره مشروعها الأساسي.
وتقول الصحفية المستقلة والمدربة الإعلامية “سناء سبوعي”، وهي إحدى مؤسسي “إنكفاضة”، أن العمل على رواية القصص بأحدث الأساليب كان من أهمّ أولويات الموقع الجديد. وهذا يعني التعمُّق في الروايات الشخصية باستخدام الرسوم التوضيحية ومقاطع الفيديو والوسائط المتعددة، مثل شهادات الرسوم المتحركة لمهاجرين إيفواريين إلى تونس، أحدهما مُهرِّب، والآخر تمّ الاتّجار به. كما يتضمن رواية القصص على المستوى الكلي من خلال تقديم البيانات بطريقة بصريّة وتفاعليّة، مثل أول خريطة تفاعلية أظهرت جميع الهجمات الإرهابية التي نُفِّذَت على الأراضي التونسية منذ الثورة.
قدّم موقع “إنكفاضة” العديد من القصص المهمّة في السنوات التي تلت ذلك. مثل تحقيق عام 2016 حول التهرُّب الضريبي بين العاملين في المهن الحرّة كالطب والمحاماة. أثّر التحقيق على مناقشة برلمانية حول قانون ماليّ جديد. في عام 2018، وكجزء من “ملفات الزراعة”، وهو تحقيق عالمي عن الأجهزة الطبية نسّقه الاتّحاد الدّولي للصحفيين الاستقصائيين، سلّطت “إنكفاضة” الضّوء على عمليات زراعة الثدي المشوبة بالعيوب التي تخضع لها نساء يأتين إلى تونس بهدف السياحة الطبية، وتناول التحقيق التعتيم على مخاطر العمليّة.
وفي أعقاب تفشي وباء فيروس كورونا، قدّم فريق الموقع المسار التّقديريّ للفيروس في تونس بشكلٍ بصريّ استناداً إلى عدد الحالات المؤكّدة في البلاد حتى الآن ومعدلات النمو التي رُصدت في بلدان أخرى، إلى جانب بيانات عن قلّة أعداد أسرّة العناية المركّزة المتاحة. انتشرت خريطة “إنكفاضة” على نطاق واسع، وكشفت الخريطة المُرمَّزة بالألوان التفاوتات الإقليمية في عدد الأسرّة، والتي تتركز في المقام الأول في المناطق الشمالية والساحلية التي تتلقى معاملة تفضيلية تاريخياً.
فرضت تونس حظر التجول للحدّ من انتشار الفيروس في 17 مارس/آذار، ثم تبنّت إغلاقًا على نطاق أوسع في وقت لاحق. اضطر فريق “إنكفاضة” إلى ايقاف بعض المشاريع التي تتطلب السّفر ، مثل التدريبات الحضوريّة، ولكنهم مستمرون في العمل عن بعد من منازلهم باستخدام أدوات الاتصال بما في ذلك Discord و Slack و Jitsi
منية بن حمادي رئيسة تحرير انكفاضة في مكاتب المؤسسة في تونس. الصورة: إنكفاضة
نموذج للحفاظ على الاستقلال
وبحسب “مونيا بن حمادي” مديرة التحرير في “إنكفاضة” أن ما يميّزه موقعهم عن غيره هو استقلاليّته. تحاول المنظّمة الحفاظ على الاستقلال المالي من خلال الحد من اعتمادها على المانحين وتنويع مصادر الدخل. في عام 2019، كان 35% من ميزانيتهم البالغة 1.5 مليون دينار تونسي (حوالي 524 ألف دولار) تمويلاً أساسياً من الجهات المانحة مثل Open Society Foundations وInternational Media Support، في حين أن الباقي كان من الخدمات التي باعوها لوسائل إعلام ومنظمات غير حكومية أخرى، مثل تطوير المواقع الإلكترونيّة، والتّصميم الجرافيكي، والتدريب الصحفي. كما أنّ الموقع لا ينشر الإعلانات أو الرعايات التّجارية.
يقوم “إنكيلاب” وهو فريق البحث والتطوير لدى منظمة “الخط” بتطوير أدوات تحقيق يمكن استخدامها في غرفة الأخبار الخاصة بهم، ثم يتم بيعها لاحقًا إلى وسائل إعلام أخرى كطريقة أخرى لتحقيق المزيد من الاستقلالية المالية. تمّ تطوير نظام إدارة المحتوى الخاص بهم inku.be داخليًا لتقديم خطط القصص الإبداعية وإنشاء محتوى مفصّل للمؤسّسات الأخرى. كما يعملون على برنامج لتلخيص الوثائق واستخراج المعلومات المهمّة كأسماء الأفراد وأسماء الشركات.
فريق “إنكفاضة” المكوّن من 18 شخصًا فريقٌ مُتعدّد التخصّصات: ثمانية منهم موظو تحرير، في حين يضمّ المختبر 10 مطورين ومصمّمي جرافيك ورسامين وعالِم بيانات، ويعملون في تعاون وثيق طوال عملية التحرير.
وقالت بن حمادي إن الاستقلال المالي للموقع كان مهمّاً خاصّةً عندما انضموا إلى تحقيق أوراق بنما العالمي الذي استقصى حول مالية الفراديس الضريبية، بالتّعاون مع الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين. وكان تحقيقهم مع التونسيين المتورطين في التحقيق يتناقض مع التغطية الأخرى في البلاد. وقالت بن حمادي “مثلاً: التقطت وسائل الإعلام معلومات عن السياسي التونسي “محسن مرزوق” وشخصيّات سياسيّة أخرى، لكنها لم تلتقط امعلومات عن رجال الأعمال الذين كان من الممكن أن يسببوا مشاكل نظراً لأنهم يموّلون وسائل الإعلام”.
تقول “روكسان فرمانفارمايان”، وهي مُحاضِرَة في السّياسة الدوليّة في جامعة كامبريدج، إن نموذج أعمال “إنكفاضة” كان حاسمًا في تمكينهم من إجراء التحقيقات دون مواجهة تضارب المصالح السياسيّ أو الاقتصاديّ.
في تونس، كما هو الحال في العديد من البلدان الأخرى، هنالك قدرٌ كبيرٌ من التّداخل بين الإعلام والسياسة. على سبيل المثال، ترشّح صاحب قناة نسمة التلفزيونية “نبيل القروي” للرئاسة في عام 2019، وهو الآن زعيم حزب “قلب تونس”. وقالت فرمانفارمايان: “حافظ “إنكفاضة” على نزاهته واستقلاله وتمكّنوا من القيام بذلك بطريقة غير مسيّسة”.
تجاوز الانقسامات من خلال البودكاست
تصف فرمانفارمايان موقع “إنكفاضة” بأنّه “جيبٌ إعلاميّ يبرهن على صمود الشباب في مرحلة ما بعد الربيع العربي”. اختارت كلمة “جيب” بسبب محدودية حجم ونطاق جمهور “إنكفاضة” – وهو أمرٌ يحاول فريق التحرير تغييره من خلال تجربة وسائل جديدة، مثل بودكاستهم الجديد الذي أُطلِقَ في أواخر العام الماضي..
وبحسب جوجل أناليتيك، فإنّ قرّاء إنكفاضة هم في الغالب أشخاصٌ تتراوح أعمارهم بين 25 و 45 عاما، حاصلون على مستوى أعلى من التعليم ويتركزون في أكبر ثلاث مدن في تونس: تونس وسوسة وصفاقس. حوالي 65-70% من القراء يقيمون في تونس و15-20% يقيمون في فرنسا.
ينشر الموقع باللغتين الفرنسية والعربية، وسيتم إطلاقه قريباً باللغة الإنجليزية. لكن الدّعامة الأساسية للجمهور هي الفرنكوفونية، بحسب خضراوي. يُبثّ البودكاست باللهجة التونسية، التي يأملون أن تكون في متناول كل من يقرأون اللغتين الفرنسية والعربية، ويأملون أن يقرّب البودكاست جمهورهم التونسي من بعضهم. يخطط الموقع لتقديم بعض المقالات العربية فقط باللهجة التونسية لسلسلة البودكاست الخاصة بهم التي تحمل اسم Inkystories، كجزء من مشروعٍ لتقديم المقالات الموجودة بشكل صوتيّ. وقال خضراوي “كانت هذه طريقة ممتازة لحلّ مسألة اللغة – نصل بهذه الطريقة إلى طبقات مختلفة من الجمهور بنفس المنتج”.
.
ركزت حلقة بودكاست الأولى منذ إطلاق Inkystories على وسم #EnaZeda – وهو ما يعني #MeToo باللهجة التونسية، وتوثّق الحلقة قصص التّونسيين الشخصية عن التحرش الجنسي. وقد دخلت البلاد في حوارٍ وطني عن التحرّش الجنسيّ منذ أن تم تصوير سياسي وهو يستمني على ما يبدو خارج مدرسة في أكتوبر 2019 (نفى هذه الادّعاءات). هذه ليست أول محاولات الفريق في مجال التسجيل الصوتي، فقد أنتجوا عام 2017 فيلمًا وثائقيًا صوتيًا عن مظاهرة قام بها مجموعة من الشّباب العاطلين عن العمل بالقرب من خط أنابيب غاز وحقول نفط في وسط الصحراء.
هذا العام، في الذكرى التاسعة للثورة، أنتج “إنكفاضة” سلسلة عن أحداث 14 يناير 2011 من منظور عدّة أشخاص تأثّروا بما حدث. كجزء من تغطيتهم لوباء كوفيد-19 فقد نظر البودكاست إلى التجربة الجماعيّة الغريبة لأنْ يكونَ المرء وحيدًا من خلال التعمّق في تجربة الحجر الصحي لشخص واحد بعد أن حضر حفلًا، وثبتَ لاحقاً أن أحد حاضريه هو حالة فيروس كورونا الرابعة في البلاد.
قالت بن حمادي إنه من السابق لأوانه قياس مدى نجاح البودكاست في جذب جمهور جديد، لكنّها متفائلة. “حتى البودكاستات التي تتحدّت عن الفلسفة تجذب أعدادًا كبيرة من المستمعين، والفلسفة في العادة ليست موضوعًا يصل إلى الجميع”.وأضافت “البودكاست جعل التجربة أكثر حميمية”.
ليلي فرودي: صحافية مستقلة مركزها تونس. تكتب لصحيفة التايمز ، الفاينانشال تايمز ، ورويترز ومؤسسات أخرى. عملت سابقًا في برنامج التحليل الإعلامي لقناة الجزيرة الإنجليزية، The Listening Post.