

رسم توضيحي: موفق قات لصالح شبكة GIJN
كشف الحقائق في الأوقات المضطربة: التّكلفة العالية للصحافة الاستقصائية في شمال إفريقيا
إقرأ هذه المقال في
المؤلف: خبير إعلامي واتّصالات متمّرس من المغرب العربي تمتدّ خبرته لأكثر من 20 عامًا في الصحافة والرصد الإعلامي والاستراتيجية الرقمية. عمل على نطاق واسع مع المنظمات الدولية، وقاد فرقًا تركّز على رصد وسائل التّواصل الاجتماعي، والمشاريع الاستقصائيّة، والاتّصال الاستراتيجي في بيئات سياسيّة معقدة.
ألقي القبض على الصّحفي المغربي سليمان الريسوني عند منزله في الرّباط، العاصمة المغربية، في مايو/أيار 2020. لطالما كان الريسوني، وهو رئيس تحرير صحيفة “أخبار اليوم”، شوكةً في خاصرة السلطات المغربيّة، حيث نشر تحقيقات في الفساد وقمع الدّولة، مثل فضيحة مكافآت الرواتب التي تورّط فيها وزير المالية وأمين الخزانة العامة.
بعد احتجازه لمدة عام دون محاكمة، حُكم على الريسوني بالسجن لمدّة خمس سنوات بتهم اعتداء جنسي غير مُثبَتة أدانتها منظّمات حقوق الإنسان وحرية الصحافة باعتبارها مدفوعةً بدوافع سياسيّة – والتي استخدمتها السلطات أيضًا لاحتجاز وإدانة الصحفي الاستقصائي “عمر راضي“. “إنهم لا يعاقبون الصّحفيين فقط”، قال الريسوني قبل النطق بالحكم عليه. “إنهم يلاحقون حياة الصحفيين الخاصّة ليكسروا عزيمتهم.”
تعكس قضيته النّضال الأوسع للصحفيين الاستقصائيين في شمال إفريقيا، حيث حرية الصّحافة آخذة في التراجع، وقول الحقيقة في وجه السلطة مكلفٌ أكثر من أيّ وقت مضى.
حرية الصحافة تحت الحصار
المغرب العربي، الذي كان ذات يومٍ منارةً للتّفاؤل في مرحلة ما بعد الربيع العربي، يصنَّف الآن من بين أكثر البيئات عدائيةً للصحفيين في العالم. وفقًا للمؤشر العالمي لحرية الصحافة لعام 2024 الصادر عن منظمة مراسلون بلا حدود، لا تزال منطقة الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا الأسوأ على مستوى العالم من حيث حرية الصحافة، حيث يواجه ما يقرب من نصف بلدانها وضعا “خطيرًا للغاية”. تراجعت تونس، التي كانت موضع إشادةٍ في الماضي القريب باعتبارها قصة نجاح ديمقراطية، من “حرة” إلى “حرة جزئيًا” بعد استيلاء الرئيس “قيس سعيد” على السلطة سنة 2019، في حين تقبع الجزائر في (المرتبة 134) والمغرب في (المرتبة 136) بالقرب من أسفل الترتيب.
في تونس، أصبح المرسوم عدد 54، الذي يستهدف ظاهريًا الجرائم الإلكترونية و”المعلومات والشائعات الكاذبة”، سلاحًا لإسكات المنتقدين بفضل الصياغة المبهَمة والأحكام القاسية. ويحذّر “وليد الماجري”، رئيس تحرير منصّة “الكتيبة” العضو في GIJN، من التّأثير المخيف للمرسوم على الصحافة الاستقصائيّة: “باتت المصادر الآن خائفة من الكلام. هذا الخوف يقتل الصحافة الاستقصائيّة من الداخل”. يوضح “الماجري” أنه في ظل حكم الرئيس “سعيد”، يواجه الصّحفيون الذين يغطون الفساد أو انتهاكات حقوق الإنسان الترهيب والتّهديدات القانونيّة. يقول: “في السابق كان الناس يتحدثون بشكلٍ غير رسمي دون تسجيل”. “الآن، حتّى هذا باتَ خطيرًا.”
إن تراجع حرية الصحافة في تونس يضاعف من التحديات التي تواجه الصحفيات في البلاد، كما تقول “حنان زبيس”، الصحفية الاستقصائية المستقلة “أن تكوني صحفية في تونس وسط عودةِ الديكتاتورية ليس بالأمر السهل، خاصة إذا كنتِ صحفيّة استقصائية… نحن نتعرّض للمضايقات على وسائل التواصل الاجتماعي و [نُستهدف] لكشفنا الفساد وانتقادنا للنظام السّياسي”. “تؤثّر الهجمات الافتراضيّة على سمعتك وحياتك الشخصية، لإسكاتك وحتى تحجيم حضورك في الأماكن العامة.” وتضيف أن أكثر من نصف الصحفيين في تونس من النساء، إلا أن قليلاً منهنّ يحصلن على المناصب القيادية، وتتقاضى الصحفيّات أجورًا منخفضة مقارنة بنظرائهن من الرّجال.

تقبع معظم دول شمال إفريقيا في أسفل مؤشر حرية الصحافة العالمي لعام 2024 الصادر عن مراسلون بلا حدود. الصورة: لقطة شاشة من RSF”
أدوات القمع: من بيغاسوس إلى السجن
في المغرب، لجأت الدولة إلى المراقبة الرقمية لإسكات الصّحافة. وبالنسبة لـ”مشروع بيغاسوس”، وثّقت منظّمة العفو الدولية و”قصص فوربيدن” و17 وسيلة إعلامية شريكة في جميع أنحاء العالم استخدام برنامج التجسس بيغاسوس لمراقبة الصّحفيين – مما مكّن السلطات من جمع المعلومات الشخصية لاستخدامها في الملاحقات القضائية ذات الدوافع السياسيّة. ودعم التّقرير تسريب أكثر من 50 ألف لأرقام الهواتف المختارة للمراقبة. وقبل اعتقالهما، كان “الريسوني”، مع زميله الصحفي عمر “راضي”، من بين حوالي 180 صحفيًا مستهدفين بالمراقبة.
في الجزائر، وصل قمع الصحافة الاستقصائية إلى مستويات مُقلقة. وبحسب الصحفي المستقلّ “علي بوخلف”: “لم تُنشَر أيّ تحقيقات كبيرة” منذ وصول [الرئيس] “تبون”. ويضيف: “سُجِن صحفيّون مثل “رابح كراش” و”بلقاسم حوام” لمجرّد قيامهم بعملهم”. وقد ألقي القبض على “كراش”، وهو مراسل لصحيفة ” Liberté ” بعد أن أبلغ عن احتجاجات استخدام الأراضي التي قام بها الطوارق. وسجن “حوام” لأنه كتب أن 3000 طن من التمور الجزائرية قد أُعيد شحنها بعد تصديرها من فرنسا لأنها تحتوي على مواد كيميائيّة ضارّة.
حلُّ الرّابطة الجزائرية للدّفاع عن حقوق الإنسان في عام 2022 مؤشر واضح على إحكام الحكومة قبضتها على الحريات المدنية. ويضيف “بوخلف”: “لم يتبقَّ مجال للصحافة الاستقصائية داخل الجزائر. الخيار الوحيد هو المنفى”.

بعد بث تقرير عن الفساد، تم اعتقال الصحفي الليبي أحمد السنوسي من قبل قوات الأمن في البلاد.
الصورة: لقطة شاشة، لجنة حماية الصحفيين (CPJ)
في ليبيا، يعمل الصّحفيون وسط مشهدٍ مُقلقٍ أكثر. مع عدم وجود سلطة مركزية لحماية حرية الصحافة، تمارس الميليشيات المسلّحة سيطرتها على وسائل الإعلام. “الصحفيون هنا يتحالفون مع الفصائل المسلّحة ليتسنى لهم البقاء”، يقول صحفي ليبي طلب عدم الكشف عن هويته نظرًا للظروف الخطيرة للصحفيين العاملين في البلاد. “الأمر لا يتعلّق بحرية الصحافة – إنه يتعلق بالبقاء.”
يسلّط الصّحفي الضوء على قضيةٍ حديثة تؤكّد المخاطر التي يواجهها الصحفيون الاستقصائيون – وهي حادثة احتجاز الصحفي “أحمد السنوسي” في ليبيا سنة 2024 وإطلاق سراحه لاحقًا. اعتقل جهاز الأمن “السنوسي” صاحب صحيفة “صدى” بعد وقت قصير من عودته إلى طرابلس من تونس. وجاء اعتقاله في أعقاب اعتقال عدد من الصحفيين من صحيفته بعد نشرهم وثائق مسرَّبة تم الحصول عليها من هيئة مكافحة الفساد في ليبيا كشفت عن فساد حكومي – بما في ذلك اختلاس عشرات الآلاف من الدّولارات المتعلّقة بمعاملات توريد لقاحات كوفيد-19.
مع وصول “السنوسي” إلى التّسريبات المالية الحسّاسة وسجله الحافل في الكشف عن الفساد رفيع المستوى، اعتُبر “السنوسي” تهديدًا لمن هم في السلطة، مما أجبره في النّهاية على مغادرة البلاد إلى تونس بالمقام الأول.
الصمود وسط القمع
يواصّل الصّحفيون في شمال إفريقيا في بذل أقصى وسعهم، والبحث عن طرق لنقل الحقيقة رغم المخاطر التي يواجهونها. في تونس، يشرح رئيس تحرير “الكتيبة” “وليد الماجري” كيف أُجبر الصحفيون الاستقصائيون على التكيُّف. يقول: “المشهد الإعلامي التقليدي ينهار، والصحافة المستقلّة تكافح من أجل البقاء. لكننا نرفض التوقف. إننا نبحث عن أساليب بديلة للتّمويل، ونعزّز الاستفادة من المنصّات الرقمية، ونعمل بشكل تعاوني لضمان وصول القصص المهمّة إلى الجمهور، مثل العمل تحت إشراف منظمات مثل “أريج” أو منظّمة “Article 19″ لتوسيع نطاق وصولنا وتأثيرنا”.
ويضيف “الماجري”الرقابة والتّهديدات القانونية في ازدياد، ولكن الصحفيين يتجهون نحو أساليب مبتكرة لفضح الفساد والتّقصير”. “لقد تعلمنا أن نكون استراتيجيين – بعض القصص خطيرة للغاية بحيث لا يمكن نشرها محليًا، لذلك نجد منصات دولية لإيصالها لجمهور أوسع.”
كشفت “الكتيبة” – الشريكة في تعاون كبير مع مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد (OCCRP) وأكثر من 70 وسيلة إعلامية أخرى على مستوى العالم – عن شبكة من قادة الأعمال التونسيين والمسؤولين الرّياضيين السّابقين وأفراد عائلة رئيس سابق كانوا يمتلكون عقارات فاخرة في دبي دون الإفصاح عنها للسّلطات التونسيّة. أمضى الصحفيون شهورًا في التحقّق من هويات الأشخاص الذين تم العثور عليهم في مجموعة من البيانات المسربة التي حصل عليها مركز دراسات الدفاع المتقدمة غير الربحي (C4ADS) وتأكيد حالة الملكيّة من خلال السجلات الرسميّة وطرق مفتوحة المصدر ومجموعات البيانات المسربة الأخرى. أدّت هذه التسريبات، وهي جزء من التّحقيق الأوسع “مفاتيح دبي” الذي أدّى إلى اعتقالات وملاحقات قضائية بتهمة التهرُّب الضّريبي وغسيل الأموال.
وشدّد الماجري على أهمية مثل هذه التّقارير في مناخ يتزايد فيه القمع: “لقد كشفنا سوء الإدارة الماليّة وأجبرنا الحكومة على التحرّك. لا يمكنهم إسكات كل صوت، حتى لو حاولوا”.
ومن الأعمال البارزة الأخرى لـ”الكتيبة” تحقيق مع محتال مشتبه به، مما أدّى إلى قيام البنك المركزي التونسي بتجميد أمواله وفتح تحقيق جنائي جديد؛ وأثارت تغطيتهم لإخفاقات الاقتصاد التونسي رد فعل علنيّ من الرّئيس التونسي. وتشمل التّحقيقات الأخيرة إفلاس شركة طيران تونسية وسوء إدارتها والأزمة في قطاع زيت الزيتون التونسي المهمّ والمحاصَر.
في عام 2024، عملت صحيفة “إنكفاضة” المستقلة التونسية على تحقيق استمر لمدة عام مع Lighthouse Reports و Le Monde و The Washington Post وشركاء آخرين للكشف عن ممارسات التنميط العنصري والترحيل التي تستهدف المهاجرين واللاجئين في المغرب وموريتانيا وتونس – والطرق التي موّلها الاتحاد الأوروبي عن علم. أجرى فريق الصحفيين مقابلات مع أكثر من 50 ناجيًا وحلل عشرات الصور الفوتوغرافيّة ومقاطع الفيديو والشهادات لتوثيق هذه العمليات وتحديد موقعها الجغرافي وتمكنوا من تحديد 13 حادثة لاعتقال السّود في مدن أو موانئ في تونس. كشف تحقيق مشترك مع قناة إنترناسيونالي الإيطالية كيف يتم ترحيل المهاجرين التونسيين من إيطاليا سرًا ودون تدقيق وكيف تواطأت شركات الطيران في هذه العملية.
يصف الصحفي الليبي كيف يعمل الصحفيون الاستقصائيون تحت ضغط شديد، ويعتمدون على قنوات اتّصال آمنة ومصادر مجهولة لأداء عملهم.
يقول: “نشارك المعلومات من خلال تطبيقات مشفّرة، ونتعاون مع المراسلين خارج البلاد، ونصدر التقارير بأسماء مستعارة عند الضرورة”. “كلّ تحقيق ننشره هو مخاطرة محسوبة”. ويشيرون إلى تحقيق عن تهريب الأسلحة تمّت مشاركته على نطاق واسع على الإنترنت على الرغم من جهود الحكومة والميليشيات لمنع انتشاره. “الحقيقة تجد طريقها”، يصر على ذلك. “حتى في أحلك الأماكن، ما زال الناس يبحثون عنها.”
كشف أحد هذه التحقيقات، “رحلة كورنيت”، كيف انتهى المطاف بالصواريخ المتطورة المضادة للدبابات المنهوبة من المخزونات الليبية بيد داعش في سيناء. تتبع التقرير طرق تهريبها وسلط الضوء على استخدامها في هجمات كبرى، بما في ذلك تدمير سفينة تابعة للبحرية المصرية.
في المغرب، أصبح سجن “سليمان الريسوني” رمزا لإحكام قبضة الدّولة على الصحافة. كان لقضيته تأثير مخيف على الصحفيين الاستقصائيين المغاربة، الذين يتجنب الكثير منهم الآن موضوعات حسّاسة مثل الفساد أو المراقبة. كتب ذات مرة: “المهم ليس السجن فحسب، بل بضمان ألا يتجرّأ أحد على أخذ مكاننا”.
في جميع أنحاء شمال إفريقيا، لا يزال الصحفيون الاستقصائيون مصممين على الكشف عن الفساد وفضح الانتهاكات والنضال من أجل الشفافية. “نحن نتعرض للهجوم ، لكننا لم نهزم. الصحافة تتطوّر، وسنجد طرقًا للاستمرار في سرد القصص المهمة”.
المضيّ قدمًا
يتوقّف مستقبل الصّحافة الاستقصائية في شمال إفريقيا على عدة عوامل حاسمة. وأكثرها إلحاحًا هو الإصلاح القانوني. إن إلغاء القوانين الصّارمة مثل المرسوم التونسي رقم 54 وقوانين التّشهير الفضفاضة في المغرب أمر حتميّ لحماية نزاهة الصحافة وحريتها. بدون تغييرات قانونيّة منهجيّة، سيستمر الصحفيّون في العمل تحت نير الخوف، سائرين وسط حقل من الألغام القانونية التي تعاقبهم على قول الحقيقة.
الضغط الدولي هو آلية حيوية أخرى للتغيير. يجب على المجتمع الدولي أن يحاسب الحكومات، وأن يفرض عقوبات على الدول التي تستخدم تكنولوجيا المراقبة كسلاح ضد الصحفيين. يجب أن تكون الاتّفاقيات التجارية مشروطة بالالتزام بمعايير حرية الصحافة، وضمان ألا تأتي الشّراكات الاقتصادية على حساب إسكات المعارضة.
في ظهيرة يالصحافة الاستقصائيّة في شمال إفريقيا على مفترق طرق. القوى التي تعمل ضدها قوية، لكن صمود الصحفيين الاستقصائيين لا يمكن إنكاره. السؤال ليس ما إذا كانت الصّحافة ستستمرّ، ولكن ما إذا كان العالم سيقف مع أولئك الذين يخاطرون بكل شيء لقول الحقيقة. وكما يقول الماجري: “نحن نتعرض للهجوم، لكننا لم نهزم. الصحافة تتطور، وسنجد طرقًا لمواصلة سرد القصص المهمة “.
في ظهيرة يوم مشرق في الرباط، جلس سليمان الريسوني – الذي تم العفو عنه وإطلاق سراحه في عام 2024 بعد اعتقاله في عام 2020 – على جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص به، وهو يحتسي قهوة إسبريسو ويكتب عمودًا ينتقد فيه ممارسات الأجهزة الأمنية المغربية. ويقول: “أنا أكتب لأنني مضطر لذلك”. “إذا توقفنا، فلن يؤدي ذلك إلا إلى زيادة استبدادهم وتعسّفهم”.
المؤلف: خبير إعلامي واتّصالات متمّرس من المغرب العربي تمتدّ خبرته لأكثر من 20 عامًا في الصحافة والرصد الإعلامي والاستراتيجية الرقمية. عمل على نطاق واسع مع المنظمات الدولية، وقاد فرقًا تركّز على رصد وسائل التّواصل الاجتماعي، والمشاريع الاستقصائيّة، والاتّصال الاستراتيجي في بيئات سياسيّة معقدة.