

طائرات "جيران" الروسية المسيّرة (شاهد) معروضة خلال عرض يوم النصر 2025 في موسكو، روسيا. وقد استُخدمت الطائرات المسيّرة الإيرانية الصنع من طراز "شاهد" على نطاق واسع من قبل روسيا لمهاجمة البنية التحتية المدنية خلال غزوها لأوكرانيا. الصورة: شاترستوك
التحقيق في جرائم الحرب: تجارة الأسلحة
إقرأ هذه المقال في
صُمِّمَ هذا الفصل لمساعدة الصحفيين الذين يحققون في مبيعات الأسلحة التي ربما تكون قد عبرت الحدّ للتواطؤ مع الجرائم الوطنيّة والدّولية أو الانتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان.
ملاحظة من المحرِّر: هذا الفصل إضافة جديدة إلى دليل GIJN للاستقصاء في جرائم الحرب، الذي نُشر في سبتمبر 2023.
تجارة الأسلحة العالمية هي صناعة بمليارات الدولارات تعمل عندما تلتقي التجارة والجغرافيا السياسية وحقوق الإنسان. بينما تستفيد الدّول والشركات من بيع الأسلحة، يمكن أن يكون لهذه المعاملات عواقب وخيمة عندما تُستخدم الأسلحة لارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية أو الإبادة الجماعية أو جريمة العدوان. وفي مثل هذه الحالات، قد يُنظر إلى المُصدِّرين والبائعين على أنهم متواطئون في ارتكاب هذه الجرائم، حتى وإن كانت المسؤولية الجنائية الدولية للشركات ما تزال موضع نقاش. يلعب الصحفيون دورًا حاسمًا في الكشف عن هذه العلاقات المعقّدة والخفية في كثير من الأحيان وفي مساءلة الحكومات والجهات الفاعلة الخاصّة.
يهدف هذا الفصل من الدليل إلى تزويد الصحفيين بالأدوات والمعلومات اللازمة للتحقيق في عمليات نقل الأسلحة التي قد تسهم في ارتكاب جرائم الحرب.
صُمِّم هذا الفصل لمساعدة الصّحفيين في التّحقيق في الحالات التي قد تكون فيها مبيعات الأسلحة قد وصلت حدَّ التواطؤ أو تأجيج الجرائم الوطنية والدولية في النزاعات أو غيرها من الانتهاكات المنهجيّة لحقوق الإنسان. ويتطلب هذا التعمُّق في الأطر القانونيّة وأساليب التحقيق ودراسة الحالات الواقعيّة لتوضيح كيفية الكشف عن الروابط بين عمليات نقل الأسلحة والجرائم الدّوليّة المزعومة والجرائم الوطنيّة والانتهاكات المنهجية لحقوق الإنسان. هذه ليست مهمة سهلة لكنها مهمة ضروريّة.
هناك مبالغ ضخمة من المال على المحك. أفاد معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، أن الولايات المتحدة كانت أكبر مصدر للأسلحة في العالم بين عاميّ 2020 و2024، حيث استحوذت على 43٪ من صادرات الأسلحة العالمية. تلتها فرنسا بنسبة 9.6٪، بينما انخفضت حصة روسيا إلى 7.8٪ خلال هذه الفترة. هذا هو المعروف على الأقل. تسلّط هذه الأرقام الضوء أيضًا على تركُّز صادرات الأسلحة بين عدد قليل من اللاعبين الرئيسيين (خاصة الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا والصين وألمانيا والمملكة المتحدة) – لا سيما العديد من اللاعبين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. غالبًا ما تتعامل الشركات الخاصة العاملة في هذه التجارة مع مشهدٍ قانوني معقد لتجنُّب العقوبات، ولا تزال الملاحقات القضائية لعمليّات نقل الأسلحة غير القانونية نادرة.
يهدف هذا الفصل من الدّليل إلى تزويد الصّحفيين بالأدوات والمعرفة اللازمة للتحقيق في عمليات نقل الأسلحة التي قد تسهم في وقوع جرائم الحرب. يتضمن ذلك فهم الأطر القانونية، وتحديد النزاعات التي حدثت فيها الانتهاكات، وتوثيق الأدلّة، وتتبع سلسلة التوريد، وتقييم الانتهاكات القانونيّة.
فهم الأطر القانونية
إن فهم الأطر القانونية التي تحكم تجارة الأسلحة الدوليّة أمرٌ ضروريٌ للصحفيين الذين يسعون إلى التحقيق في التواطؤ المحتمل في جرائم الحرب. تحدّد هذه الأطر التزامات الدّول الموقِّعة والمصادقة، وفي بعض الحالات، الجهات الفاعلة الخاصة، وتوضّح الحدود بين عمليات نقل الأسلحة المشروعة، والعمليات التي قد تسهم في وقوع انتهاكات جسيمة للقانون الإنساني الدولي، أو على نطاق أوسع، انتهاكات حقوق الإنسان.
معاهدة تجارة الأسلحة، التي تم تبنيها سنة 2013 ودخلت حيّز التنفيذ سنة 2014، تعتبر حجر الزاوية للدّول الأطراف الموقعة على المعاهدة البالغ عددها 116 دولة التي وافقت رسميًا على تنظيم تجارة الأسلحة العالمية (وقعت 23 دولة أخرى على المعاهدة ولكنها لم تصادق عليها بعد). العديد من الدّول الموقَّعة منتِجة رئيسيّة للأسلحة – على الرغم من أن الولايات المتحدة وروسيا غائبتان بشكل ملحوظ عن قائمة أعضاء المعاهدة (وقعت الولايات المتحدة على الاتفاقية لكنها لم توافق عليها رسميًا).
وتحدد الأدوات القانونية المعايير التي يجب أن تتم في إطارها عمليات نقل الأسلحة. وهي توفر للصحفيين إطارًا لتقييم استيفاء صفقات الأسلحة للشروط القانونيّة والتحقيق في الحالات التي قد تكون عمليات النقل قد ساهمت فيها في انتهاكات جسيمة للقانون الدولي.
تحظر المادة 6 من معاهدة تجارة الأسلحة صراحة على الدول السماح بنقل الأسلحة إذا كانت على علم بأن الأسلحة ستستخدم لارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانيّة أو الإبادة الجماعية.
وكما قال “كوينتن ديغروت”، الخبير في القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، لهذا المشروع: “يضع هذا البند معيارًا واضحًا لمسؤوليّة الدّول – وهو يختلف عن ارتكاب جرائم الحرب – وهو مفيد للصحفيين للاستشهاد به في المقالات كخط لا يمكن تجاوزه، مما يسلط الضوء على أن الدولة مسؤولة بموجب القانون الدولي عندما تسهل عمليات نقل الأسلحة ارتكاب جرائم حرب في الدولة المتلقِّية”.
وبعيدًا عن الحظر الصريح، تطالب المادة 7 من معاهدة تجارة الأسلحة الدول المصدرة بتقييم ما إذا كان من الممكن استخدام الأسلحة لارتكاب أو تسهيل انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني أو قانون حقوق الإنسان. إذا تم تحديد خطر كبير، تنص المادة 7 على أنه يجب على الدولة “أن لا تأذن” بالتصدير. (لمزيد من المعلومات عن اتفاقيات الأسلحة الدوليّة، اطّلع على الفصل المتعلّق بـ الأسلحة المحظورة والمقيدة في هذا الدليل).
بالإضافة إلى معاهدة تجارة الأسلحة، تشكل اتفاقيات جنيف لعام 1949 وبروتوكولاتها الإضافية حجر الأساس للقانون الدولي الإنساني، حيث تحدد الحماية الممنوحة للمدنيين وأسرى الحرب أثناء النزاعات المسلحة. تلزم هذه المعاهدات جميع الدول باحترام القانون الدولي الإنساني، مما يعزز المسؤوليات المنطقية المرتبطة بالمخاطر التي تنطوي على أي عمليات نقل للأسلحة. تشمل تدابير الحماية الرئيسية حظر الهجمات العشوائية، وشرط التمييز بين المدنيين والمقاتلين، والالتزام باتخاذ جميع الاحتياطات الممكنة في الهجوم، وحظر الوسائل والأسلحة والأساليب التي لا تتفق مع القانون الدولي الإنساني. وتلزم هذه المعاهدات جميع الدول بـ “احترام القانون الدولي الإنساني وضمان احترامه”.
وجادل البعض بأن هذا يشمل أيضًا الالتزام بعدم تقديم المساعدة (مثل عمليات نقل الأسلحة) عند حدوث انتهاكات للقانون الدولي الإنساني. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن هذا التفسير لا يتبناه الجميع وما يزال موضع نقاش، لأن بعض الدول – مثل الولايات المتحدة – لا تعتبر نفسها ملزمة بهذه الالتزامات عندما لا تكون طرفًا في النزاع. كما أن التوجيهات الرئيسية مثل القاعدة 144 للجنة الدولية للصليب الأحمر لا تذكر على وجه التحديد عمليات نقل الأسلحة.
وعلى الصعيد الإقليمي، يضع الموقف الموحد للاتحاد الأوروبي 2008/944/CFSP معايير ملزمة قانونيًا للدول الأعضاء عند تقييم تراخيص تصدير الأسلحة. تتطلب هذه المعايير من الدول الأعضاء تقييم موقف المتلقي تجاه القانون الدولي الإنساني. بالإضافة إلى ذلك، يتضمن أيضا اعتبارات حقوق الإنسان والاستقرار الإقليمي وخطر التحويل إلى آخرين غير مصرَّح لهم استخدامها.
وبالإضافة إلى هذه المعاهدات والصكوك، تهدف عدة صكوك دولية إلى منع الاتّجار غير المشروع بالأسلحة الصغيرة والأسلحة الخفيفة وانتشارها. يشجّع برنامج عمل الأمم المتحدة الدّولَ على تنفيذ تدابير على المستويات الوطنية والإقليمية والعالمية للسيطرة على الأسلحة الصغيرة والأسلحة الخفيفة. ويلزم الصكُّ الدّولي للتعقّب الدّولَ باعتماد إجراءات موحّدة لتمييز وتعقّب الأسلحة الصغيرة والأسلحة الخفيفة، وتعزيز المساءلة وتسهيل كشفِ تدفّقاتِ الأسلحة غير المشروعة. على الصعيد الإقليمي، تتناول معاهدات مثل اتفاقية كينشاسا مراقبةَ الأسلحة الصغيرة والأسلحة الخفيفة داخل وسط أفريقيا ورواندا، بهدف منع الاتجار غير المشروع بها وانتشارها.
وعلاوة على ذلك، يركّز بروتوكول الأسلحة النارية، المكمّل لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنيّة، في جملة أمور، على تعزيز التعاون بين الدول لمكافحة صنع الأسلحة النارية وأجزائها ومكوناتها وذخيرتها والاتجار بها بصورة غير مشروعة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن ترتيب “فاسينار” – وإن لم يكن ملزِمًا قانونيًا – يشجّع على الشفافيّة والنّقل المسؤول للأسلحة التّقليدية والسلع ذات الاستخدام المزدوج.
وتحدد هذه الصكوك القانونية مجتمعة المعايير التي يجب أن تتم في إطارها عمليات نقل الأسلحة. كما أنها توفّر للصحفيين إطارًا لتقييم شرعية صفقات الأسلحة وتقدّم دليلاً حول ما إذا كان ينبغي التّحقيق في الحالات التي قد تكون عمليات النقل قد ساهمت فيها في انتهاكات جسيمة للقانون الدولي (على الرغم من أنها أوضحت في تقاريرها أن هذه الصكوك تتناول مسؤولية الدّول، لكن انتهاكاتها لا ترقى في حد ذاتها إلى ارتكاب جرائم حرب من قبل الدول).
اختيار النّزاع وتأطير التّحقيق
يجب على الصحفيين أيضا فحص مجموعات البيانات التي من شأنها أن تسلط الضوء على الضّرر غير المتناسب للمدنيين، واستخدام الأسلحة المتفجّرة في المناطق المأهولة بالسكان، وأي موارد أخرى… قد يساعد ذلك في تحديد الانتهاكات.
وتتمثّل الخطوة التّالية للصّحفيين في تحديد نزاع قد تكون الأسلحة قد لعبت فيه دورًا في انتهاك القانون الدّولي الإنسانيّ. تعدُّ النزاعات التي أبلغت فيها منظمات ذات مصداقية، مثل الأمم المتحدة أو جماعات حقوق الإنسان الرئيسية، عن انتهاكات للقانون الدولي نقطة انطلاق جيدة.
يجب على الصحفيين أن يبدأوا بأسئلة مثل: ما هي الدّول أو الشركات التي تزوّد الجهات الفاعلة في هذا الصراع بالأسلحة؟ هل يمكن إثبات مصدر هذه الأسلحة؟ هل تظهر هذه الأسلحة في حوادث تثير مخاوف متعلقة بالقانون الدّولي الإنساني؟ هل دقّت أي حكومات أو منظمات غير حكومية أو وكالات تابعة للأمم المتّحدة ناقوس الخطر بشأن عمليات نقل الأسلحة هذه؟ هل أبلغ أي شخص آخر عن هذه القضية؟ هل هناك أدلّة جديدة لمواصلة التحقيق؟
توثيق الأدلة على جرائم الحرب
بمجرّد أن يختار الصحفيون النزاع الذي سيحققون فيه، تصبح مهمتهم توثيق الحوادث المحدّدة التي قد تشكل جرائم حرب. وهذا يشمل الهجمات العشوائية أو غير المتناسبة على المدنيين، وتدمير البنية التحتية المحمية مثل المستشفيات أو المدارس، واستخدام الأسلحة المحظورة مثل الذخائر العنقودية أو الألغام الأرضية المضادة للأفراد.
للقيام بذلك بشكل فعال، يجب على الصحفيين الرجوع إلى التقارير الميدانية من منظمات مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش ومنظمة أطباء بلا حدود ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. تنشر بعض هذه المنظمات شهادات تم التحقق منها، وصور الأقمار الصناعية، والتحليلات الجنائية الرقمية التي تربط حوادث معينة بتكتيكات أو أنواع معيّنة من الأسلحة.
يجب على الصحفيين أيضًا الاطّلاع على مجموعات البيانات التي من شأنها أن تسلط الضوء على الضرر غير المتناسب على المدنيين، واستخدام الأسلحة المتفجرة في المناطق المأهولة بالسكان، وأي مجموعات بيانات أخرى (راجع مؤسسة Every Casualty Counts للحصول على مصادر حول بيانات الضّرر المدني) التي قد تساعد في تحديد الانتهاكات.
يمكن أن يساعد إعداد جدول بيانات أو قاعدة بيانات للحوادث – تحتوي أعمدة للوقت والتاريخ والموقع ونوع السلاح المستخدم والجاني والإصابات المدنية والانتهاكات القانونية المحتملة – في تنظيم النتائج والاستعداد للمراحل التالية من التّحقيق. سيتم الحديث بالتفصيل عن هذه المسألة في مكان آخر من هذا الدليل.
تحديد الأسلحة المستخدمة
بمجرد توثيق حادث معين، فإن الخطوة الحاسمة التالية للمحققين هي تحديد أصل السلاح المستخدم. غالبًا ما تبدأ هذه العملية بتحليل مفصّل للصور أو مقاطع الفيديو مفتوحة المصدر التي تم التقاطها في أعقاب الهجوم. غالبًا ما توفر وسائل التواصل الاجتماعي والتقارير الإخبارية المستقلة وصحافة المواطن مواد مرئية قيمة. يمكن أحيانًا إرجاع الصور التي تظهر شظايا الأسلحة – مثل بقايا القنابل أو ذيل الصواريخ أو أغلفة القذائف – إلى مُصنِّعين محددين من خلال الأرقام التسلسلية الفريدة أو علامات المَصنَع أو خصائص التّصميم، مما يوفر دليلاً ملموسًا على مصدر السلاح.
وضعت بعض المنظمات أدلّة شاملة للمساعدة في التعرّف على الذخائر المتفجرة. يوفر مورد Bellingcat “دليل المبتدئين لتحديد الذخائر المتفجرة في صور وسائل التواصل الاجتماعي” منهجيّة لتحليل الأدلّة المرئيّة للتأكد من أنواع الأسلحة وأصولها. وبالمثل، تقدم Bomb Techs Without Borders دليل “التحديد الأساسي للذخيرة في أوكرانيا”، والذي يتميز بصور ومعلومات شاملة عن الذخائر التي تم تأكيد وجودها في أوكرانيا.

يتم عرض بقايا مُسيَّرة روسية مدمرة من طراز شاهد في شارع خريشاتيك خلال معرض في كييف، أوكرانيا. الصورة: شترستوك، دميترو ستوليارينكو
بالإضافة إلى هذه الموارد ، يمكن الاستفادة من التّشاور مع خبراء الأسلحة أو المنظمات مثل Conflict Armament Research (CAR) و Action on Armed Violence (AOAV). (ملاحظة من المحرّر: مؤلف هذا الفصل هو المدير التنفيذي لـ AOAV.) لدى CAR كتيبات تعريف حسب النّزاع والسّنة والمنطقة التي قد تساعد في مطابقة الأدلّة المرئية مع نماذج أسلحة ومصنِّعين محددين. وبالإضافة إلى هذه الموارد، يمكن للصحفيين أيضًا استكشاف منظمات مثل معهد الأمم المتحدة لبحوث نزع السلاح، الذي يجري بحوثًا بشأن شهادات الاستخدام النهائي والمستخدم النهائي في برنامجه للأسلحة التقليدية والذخائر؛ ومعهد الأمم المتحدة لبحوث نزع السلاح التابع للأسلحة التقليدية. Control Arms، وهي منظمة غير حكوميّة مكرّسة لمراقبة تجارة الأسلحة، وأمانة معاهدة تجارة الأسلحة، التي تتلقى تقارير من الدّول وتنشر معلومات مختارة – وإن كان ذلك ببعض السرية.
وفهم العلامات على الذخائر أمر بالغ الأهمية أيضًا. غالبًا ما تتميز الأسلحة والذخيرة برموزٍ لونيّة محددة وعلامات أبجدية رقمية تشير إلى نوعها وأصلها واستخدامها المقصود. على سبيل المثال، يمكن أن تشير الأشرطة الملونة على قذائف المدفعيّة إلى ما إذا كانت شديدة الانفجار أو كانت دخانيّة أو طلقات تدريبية. يتطلّب فكّ هذه الرموز الإلمام بأنظمة الوسم في مختلف البلدان والشركات المصنِّعة.
قد توفّر الأبعاد الماديّة وميزات تصميم السلاح أدلّة تعريف إضافية. من خلال مقارنة حجم وشكل الذخيرة بالمعايير المعروفة، يمكن للمحللين حصر نطاق النماذج المحتملة. يمكن استخدام تقنيات مثل التصوير المساحي – بما في ذلك استخدام برامج مثل Agisoft Metashape أو PhotoModeler – عندما يكون القياس المباشر غير ممكن، مما يسمح بالنمذجة ثلاثية الأبعاد والقياس الدقيق من الصور. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لأدوات مثل قاعدة بيانات الذخائر المتفجرة التابعة لحلف شمال الأطلسي (NATO EODD) ، ومجموعة معرفات الأسلحة ARES ، ومنصّة نشاط إدارة الذخيرة التابعة لمركز جنيف الدولي لإزالة الألغام للأغراض الإنسانية (GICHD) أن تدعم الإسناد المرجعي بناء على خصائص الأبعاد والخصائص الهيكليّة. تعزز هذه التقنيات تحديد الهوية عن بعد وتقلل من الحاجة إلى الوصول المادي في بيئات النزاع أو ما بعد الانفجار.
تعمل التقنيات الناشئة على تحسين كفاءة ودقّة تحديد الذخائر بشكل كبير من خلال تمكين التحليل عن بعد وأتمتة التعرّف البصري ودمج قواعد البيانات للمقارنة في الوقت الفعلي. يمكن الآن للتطورات مثل أدوات التعرف على الصور التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي وبرامج التصوير المساحي ثلاثية الأبعاد وخوارزميات التعلُّم الآلي تحديدَ أنواع الأسلحة من الأدلة المجزأة أو الصور وحدها. يعتمد النشطاء الميدانيون والمحللون بشكل متزايد على الكاميرات المثبّتة على المسيَّرات، وواجهات الواقع المعزز، وقواعد البيانات الجنائية المخزّنة تخزينًا سَحَابيًا لتصنيف الذخائر بسرعة – حتى في البيئات المعادية أو التي يتعذّر الوصول إليها. لا تعمل هذه الأدوات على تسريع التقييمات الجنائيّة فحسب، بل تعمل أيضًا على تحسين دقّة الأدلة المستخدمة في إزالة الألغام للأغراض الإنسانية وتوثيق ساحة المعركة.
تقوم مجموعات مثل VFRAME و Tech 4 Tracing بتطوير أدوات تستخدم خوارزميات التعلم الآلي والرؤية الحاسوبية لأتمتة جوانب تحديد الذخائر. بين عامي 2017 و 2021 ، تعاونت VFRAME مع منظمة Mnemonic التي تتخذ من برلين مقرًا لها، وهي جهة تركّز على التوثيق الرقمي لجرائم النزاع وانتهاكات حقوق الإنسان، “لتجربة مشروع باستخدام الرؤية الحاسوبية للبحث عن الذخائر في ملايين مقاطع الفيديو”. يجب أن يكون Tech 4 Tracing، الذي يموله الاتحاد الأوروبي عبر المفوضية الأوروبية، متاحًا لمساعدة الصحفيين في مهام محددة.
الاطّلاع المستمرّ على هذه التطورات التكنولوجية للصحفيين يوفّر طرقًا إضافية لتحديد أنواع الأسلحة. حتى إذا تعذّرت استعادة البقايا المادية، فإن الصور عالية الجودة التي تم تحليلها من قبل الخبراء المناسبين قد يُوصل إلى معلومات مهمّة حول أصل السلاح.
تتبع سلسلة التوريد
بمجرّد تحديد السلاح المستخدم في النّزاع، يتعيّن على الصحفيين تتبُّع رحلته من الشركة المصنِّعة إلى ساحة المعركة. يعد تتبع “سلسلة التوريد” هذا أمرًا بالغ الأهمية لفهم آليات نقل الأسلحة وتقييم الانتهاكات المحتملة للقانون الدولي.

قذائف مدفعية، كهذه من عيار 155 ملم للمدفع ذاتي الدفع M107 الأمريكيّ الصنع، تحمل علامات خارجيّة يمكن للمحققين استخدامها في كثير من الأحيان لتتبُّع نوعها وبلدها الأصلي. الصورة: شترستوك
من المصادر الرئيسية لذلك قاعدة بيانات نقل الأسلحة التابعة لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI). وتوفّر قاعدة البيانات الشاملة هذه معلومات مفصّلة عن عمليات النقل الدولية للأسلحة التقليدية الرئيسية منذ عام 1950، بما في ذلك بيانات عن المورّدين والمستفيدين وأنواع الأسلحة المنقولة. من خلال تحليل هذه البيانات، يمكن للمراسلين تحديد الأنماط والمعاملات المحددة التي قد تكون ذات صلة بهم.
من خلال الاستفادة من موارد مثل قاعدة بيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام وتقارير التصدير الوطنية، يمكن للصحفي الكشف عن المسارات التي تصل من خلالها الأسلحة إلى مناطق النزاع، وتسليط الضوء على الانتهاكات المحتملة للقانون الدولي.
للحصول على مزيد من التفاصيل الدقيقة، غالبًا ما تكون التقارير الوطنية لتصدير الأسلحة قيِّمة جدًا. في المملكة المتحدة، تنشر الحكومة تقارير ربع سنوية وسنوية عن ضوابط التصدير الاستراتيجية، مع تفصيل موافقات الترخيص حسب الوجهة والنوع. يمكن الوصول إلى هذه التقارير من خلال الموقع الرسمي لحكومة المملكة المتحدة. وبالمثل، فإن الاتحاد الأوروبي يجمّع بيانات تصدير الأسلحة من الدّول الأعضاء في تقريرٍ سنوي، يقدم نظرة مفصّلة في حجم وطبيعة صادرات الأسلحة عبر الاتحاد الأوروبي. في الولايات المتحدة، يقدم تقرير المادة 655 الصادر عن الخارجيّة بيانات رسمية عن “تراخيص المبيعات التجارية المباشرة”، بينما تعلن وكالة التعاون الأمني الدفاعي (DSCA) المبيعات العسكريّة الأجنبية الكبرى.
من الضروري ربط سنة التّصدير بالسنة التي استُخدم فيها السّلاح. على سبيل المثال، إذا تلقت دولة ما دفعة من الصواريخ الموجهة في عام 2023، وشملت ضربة عام 2024 تلك الذخائر نفسها، فيمكن إنشاء صلة أقوى. ومع ذلك، من المهم الانتباه إلى أن بعض الذخائر والأسلحة تبقى في الترسانات لسنوات، مما يصعّب الربط المباشر بين شرائها واستخدامها. في مناطق النزاع النشطة، قد تختار الدول استخدام الذخائر القديمة التي تم تصديرها منذ سنوات، خاصة أثناء الهجمات واسعة النطاق.
يتطلب فهم تعقيدات سلاسل توريد الأسلحة تحليلاً دقيقًا للبيانات والتقارير المتاحة. من خلال الاستفادة من موارد مثل قاعدة بيانات معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام وتقارير التصدير الوطنية، يمكن للصحفيين الكشف عن المسارات التي تصل من خلالها الأسلحة إلى مناطق النزاع، وتسليط الضوء على الانتهاكات المحتملة للقانون الدولي وإثراء الخطاب العام حول مساءلة تجارة الأسلحة.

ناقلات جند مدرعة معروضة في المعرض الدولي للصناعات الدّفاعية لعام 2024 في كيلسي، بولندا. الصورة: شترستوك
تقييم الانتهاكات القانونية
في هذه المرحلة، يجب على الصحفيين العودة إلى الأطر القانونية. تُطالب معاهدة تجارة الأسلحة المُصدِّرين بعدم الموافقة على عمليةِ نقل الأسلحة إذا كانوا يعرفون أنها ستستخدم لارتكاب جرائم حرب. لكن ما الذي يُصنَّف على أنه معرفة؟
من الناحية العملية، تفسر المحاكم والخبراء القانونيون ذلك بموجب معاهدة تجارة الأسلحة على أنه يشمل المعرفة الفعلية والمعرفة البنّاءة – أو ما كان يجب أن يعرفه شخص عاقل في الحكومة في ذلك الوقت. والأهم من ذلك، أن معيار “المعرفة” لا يزال مرتفعًا جدًا من الناحية القانونيّة، مما يتطلّب شبه يقين بأن الأسلحة ستستخدم لارتكاب جرائم حرب. وبالإضافة إلى ذلك، تنصّ المادة 7 (2) من معاهدة تجارة الأسلحة على أنه حتى لو كان تقييم المخاطر سلبيًا، يجوز للدولة المصدِّرة أن تشرع في التصدير إذا عُرضت تدابير التخفيف – مثل ضمانات بناء الثقة – وقُبلت.
يمكن لطلبات حق الحصول على المعلومات أيضًا أن تكشف النقاب عن الاتصالات الداخلية وتقييمات المخاطر المتعلقة بصادرات الأسلحة.
إذا كان خبراء الأمم المتّحدة أو المنظمات غير الحكومية قد أبلغوا بالفعل عن نمط من الغارات الجوية العشوائيّة من قبل المشتري، فسيكون من الصعب على المصدر ادعاء الجهل (على الرغم من أنهم قد يفعلون ذلك). ينطوي تقييم المخاطر على ثلاثة عوامل رئيسية: كيف تصرف المتلقّي في الماضي، وما تقوله استراتيجيته أو عقيدته العسكرية الرسمية حول استخدام القوة، وما هي الوعود التي قطعها المشتري للبلد المصدِّر فيما يتعلق بكيفية استخدام الأسلحة. وإذا تم تجاهل الانتهاكات في الماضي أو لم يتم اتخاذ إجراءات بشأن التحذيرات ذات المصداقية، فقد يشير ذلك إلى أن المصدر كان لديه، أو كان ينبغي أن يكون لديه، وعيٌ كافٍ بالمخاطر – مما قد يفي بالعتبة القانونية للمعرفة الفعلية والبنّاءة على حد سواء.
الوعي الحكومي والمساءلة
إن تحديد ما كانت تعرفه الحكومات المصدِّرة وقتَ بيع الأسلحة يتطلّب التّدقيق في السجلات الرسمية والإجراءات الحكومية والوثائق القانونية. في المملكة المتحدة، على سبيل المثال، سلطت المناقشات والاستفسارات البرلمانية الضوء على معرفة الحكومة بالانتهاكات المحتملة لحقوق الإنسان من قبل الدول المتلقية. يمكن لطلبات حق الحصول على المعلومات أيضًا أن تكشف النقاب عن الاتّصالات الداخلية وتقييمات المخاطر المتعلقة بصادرات الأسلحة.
حدثت قضية تاريخيّة سلّطت الضوء على المساءلة الحكومية سنة 2019 عندما قضتْ محكمة الاستئناف البريطانية بأن قرار الحكومة بمواصلة ترخيص صادرات الأسلحة إلى المملكة العربية السعودية غير قانوني. وجدت محكمة الاستئناف أن حكومة المملكة المتحدة خالفت القانون بعدم إجراء تقييم صحيح لما إذا كان التّحالف الذي تقوده السعودية قد ارتكب انتهاكات للقانون الإنساني الدّولي في اليمن. وشدد الحكم على الالتزام القانوني بإجراء تقييمات صارمة للمخاطر قبل السماح بتصدير الأسلحة. ردًا على حكم محكمة الاستئناف، أصدرت حكومة المملكة المتحدة إشعارًا رسميًا يُقِرّ بما جاء في الحكم ويحدّد الخطوات الفورية للامتثال. وشمل ذلك الالتزام بعدم منح أي تراخيص جديدة للصادرات إلى المملكة العربية السعودية وشركائها في التّحالف والتي قد تُستخدم في النّزاع في اليمن مع النّظر في تداعيات الحكم.

طائرة تابعة لسلاح الجو السعودي من طراز يوروفايتر تايفون. حظرتْ محكمة بريطانية إرسال المزيد من الصادرات العسكرية إلى السعودية سنة 2019، بسبب مخاوف بشأن دور المملكة العربية السعودية في الحرب في اليمن، بما في ذلك مقاتلة تايفون، التي ينتجها تحالف أوروبي يضم المملكة المتحدة. الصورة: شترستوك
مسؤولية الشركات في صادرات الأسلحة
بعيدًا عن الحكومات، تعدّ شركات الدّفاع الخاصة لاعبًا أساسيًا في تجارة الأسلحة، وعلى عكس الدّول، يمكن تحميل الشّركات المسؤولية عن جرائم الحرب في شكل تواطؤ – على الرغم من أن هذا يتطلب عتبة قانونية عالية لإثبات نية المساهمة ومعرفة أن مثل هذه المساهمات ستؤدي إلى ارتكاب جريمة حرب، والملاحقات القضائيّة في مثل هذه الحالات لن تكون ممكنة إلا على المستوى الوطني، حيث لا يمكن مقاضاة الشركات من قبل المحكمة الجنائية الدولية (فهي ليست دولة تنقل الأسلحة، بل دولة أجنبية تشتري أسلحتها من شركة). تقوم هذه الشركات بتصنيع وتسويق وبيع أنظمة الأسلحة على مستوى العالم. وغالبًا ما تخضع أنشطتها للوائح الوطنيّة والدولية على حد سواء. يتطلب التحقيق في تورط الشركات فحص إفصاحات الشركة وسجلات التصدير وأنشطة الضغط (اللوبيات).
يمكن للشفافية – أو في بعض الأحيان الأهم من ذلك، غياب الشفافيّة – أن تعطي فكرة عن المساءلة والموقف الأخلاقي للعمليات المتعلقة بالأسلحة للشركة.
غالبًا ما يطلب من شركات الدّفاع المدرَجة في البورصة الكشف عن معلومات حول عملياتها، بما في ذلك عقود التصدير وتقييمات المخاطر في تقاريرها السنوية وإيداعاتها لدى الهيئات التنظيميّة. يمكن لقواعد البيانات مثل OpenCorporate و Orbis ونظام EDGAR التابع لهيئة الأوراق المالية والتداولات الأمريكية (SEC) أن تزوّد الصحفيّ بمعلومات حول هياكل الشّركات والشركات التّابعة والتّعاملات المالية.
يجب على الصحفيين الذين يحللون إفصاحات شركات الدفاع أن ينتبهوا إلى هياكل الشركات، باستخدام أدوات مثل OpenCorporate أو Orbis أو نظام EDGAR التابع للجنة الأوراق المالية والبورصات للكشف عن العلاقة بين الشركة الأمّ والشركات التابعة، أو الكيانات الخارجية أو الشركات الوهمية التي قد تحجب الأنشطة المثيرة للجدل. غالبًا ما تحتوي التّقارير السنوية والإيداعات التنظيميّة على مؤشّرات قيّمة – مثل بيانات الامتثال لمراقبة الصادرات، ومخاطر التّقاضي، وتفاصيل الإيرادات الجغرافية – يمكن أن تشير إلى مبيعات الأسلحة إلى المناطق الحساسة.
يمكن أن يكون الافتقار إلى الشفافيّة – خاصةً فيما يتعلق بالمستخدمين النّهائيين أو الاتفاقيّات التعويضيّة أو التقنيات ذات الاستخدام المزدوج – كاشفًا في حد ذاته. يجب الرجوع إلى هذه الثغرات مع تحقيقات المراقبة وبيانات التّرخيص الرسمية. يمكن أن يساعد تقاطع إفصاحات الشركات مع قواعد بيانات الصّادرات العامّة (بما في ذلك تلك الصادرة عن الحكومة البريطانيّة، والتقارير السنوية للاتّحاد الأوروبي حول صادرات الأسلحة، أو معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام SIPRI)، بالإضافة إلى الإعلانات الصّادرة عن وكالة التعاون الأمني الدفاعي الأمريكية (DSCA)، في تحديد العقود والوجهات وشركاء الأعمال بشكل أدق.
في نهاية المطاف يمكن للشفافية – أو في بعض الأحيان الأهم من ذلك، غياب الشفافيّة – أن تعطي فكرة عن المساءلة والموقف الأخلاقي للعمليات المتعلقة بالأسلحة للشركة.
قد تنخرط الشّركات في جهود الضغط للتأثير على سياسات تصدير الأسلحة – وهو نشاط آخر يستحق المتابعة. وثّق الصحفيون الاستقصائيون ومنظّمات الرّقابة حالات مارس فيها متعاقدو الدّفاع ضغوطًا من أجل وضع لوائح تصدير مواتية أو سعوا إلى التقليل من شأن المخاوف المحتملة المتعلقة بحقوق الإنسان المرتبطة بمنتجاتهم. يعد فهم هذه الديناميكيات أمرًا بالغ الأهمية – يجب على الصّحفي البحث عن الاجتماعات غير المدرجة على جدول الأعمال والتي تتم دون مَحَاضر. لمزيد من المعلومات حول كيفية التّحقيق في جهود الضغط، اقرأ دليل الضغط الخاص بالشبكة العالمية للصحافة الاستقصائية.
بناء القضية لإعدادها للنشر
في المرحلة المتقدّمة من التّحقيق – عندما يتمّ تحديد أنواع بقايا الأسلحة، وكشف انتهاكات القانون الدولي، وتتبُّع سلاسل التّوريد – يتحوّل تركيز الصّحفيين من جمع البيانات إلى صياغة سرد متماسك ومؤثّر. يصبح سرد القصص أمرًا بالغ الأهمية. ومهما كانت الحقائق دامغة، فلا بد من عرضها بطريقةٍ مفهومة وإنسانية ومقنعة لجمهور واسع — سواء كان جمهورًا عامًّا أو قانونيًّا أو سياسيًّا.
يبدأ العديد من الصحفيين الاستقصائيين بما يشار إليه غالبا باسم الحقيقة الأساسيّة. إنهم يربطون القصة بحادثة محددة محورها الإنسان: ضربة صاروخية على مدرسة، أو مستشفى تحوّل إلى أنقاض، أو شارع سكني خُرّبته المتفجرات. شهادات الناجين، وأسماء القتلى، والأدلة المادية الملموسة تساهم في رسم المشهد بوضوح وجدية أخلاقية. هل جرى استهداف الطواقم الطبية؟ هل قُتل الجنود الجرحى؟
إن التفاصيل الميدانية، لا تُكتب من باب التزيين، بل هي أساسية… إذ يضمن الصحفي أن التحقيق لا يقتصر على تتبّع مسار السلاح، بل يوثّق الجرح الذي خلّفه وراءه — جسديًّا ونفسيًّا واقتصاديًّا.
عادةً ما تكون الأوصاف متحفظة ولكنها دقيقة، بما يضمن أن يفهم القارئ أهمية الموضوع دون اللجوء إلى التهويل. وهذا التمهيد للمشهد ليس مجرد مقدمة — بل يشكّل الجوهر الأخلاقي للتحقيق.
من هناك، غالبًا ما يغمر الصحفيون جمهورهم في الواقع الحسيّ للحدث. قد يصفون الأصوات — سواء كانت صفيرًا حادًّا في السماء أو دويّ قذيفة قادمة — أو كيف كان الهواء قبل الانفجار وبعده، أو الرائحة التي خلّفها وراءه: البارود، البلاستيك المحترق، الأرض المتفحّمة. وقد يفصّلون وقت وقوع الهجوم — فجرًا، أو عند الغروب، أو في منتصف النهار — وما كان يفعله المتضررون في اللحظات التي سبقته: هل كانت العائلات تُعِدّ وجبة؟ هل كان الأطفال عائدين من المدرسة؟ أم كان السكان نائمين في أسرّتهم؟ وتُذكر هذه التفاصيل الشخصية لا بهدف الزخرفة، بل لتجسيد البعد الإنساني الكامن خلف الأرقام والإحصاءات.
مثل هذه التفاصيل تبني طبقات من التّعاطف والسياق. إنها تقدّم الضحايا، ليس كأرقام مجهولة الهوية، ولكن كأفراد لهم حياتهم وطموحاتهم وروتين يومهم. قد يستكشف الصحفيون من هم – ما هي الأحلام التي انطفأت، وما هو المستقبل الذي تدمّر. طالب يأمل في أن يصبح مهندسًا. جدة لمّت شمل عائلتها. شابة حصلت للتوّ على منحة دراسيّة جامعيّة. لحظات الطموح هذه التي كانت موجودة في السابق وضاعت الآن تشكّل الهيكل العاطفيّ للتقرير.
إن التفاصيل الميدانية، لا تُكتب من باب التزيين، بل هي أساسية… إنها تحقق ما لا تستطيع البيانات والوثائق القانونية إنجازه: إنها تضفي طابعًا إنسانيًا على السّرد وتكرِم الموتى. ويضمن بها الصحفيّ أن التحقيق لا يقتصر على تتبّع مسار السلاح، بل يوثّق الجرح الذي خلّفه وراءه — جسديًّا ونفسيًّا واقتصاديًّا.
من مسرح العنف، يتوسّع السّرد – جغرافيًا ومؤسسيًا. يتتبع الصحفيون مسار السلاح إلى أصوله: من العلامات الموجودة على الذخيرة إلى أرضية المصنع، ومن المصدِّر إلى القرارات السياسية أو المؤسسية التي مكنت السلاح من أن يقطع هذه الرحلة. إنهم يدرسون كيف جاءت قنبلة معينة لضرب مبنى معيّن، في مدينة معيّنة، في يوم معيّن.
هذا هو المكان الذي يثبت أهمية التّوثيق الدقيق. ويقوم المراسلون بمراجع سجلات التراخيص وقواعد بيانات مراقبة الصادرات والإفصاحات البرلمانية وإيداعات الشّركات والردود على طلبات الحصول على المعلومات. إذا تم بيع سلاح خلال فترة كان فيها المراقبون الدّوليون يحذّرون من انتهاكات القانون الإنساني، فإن هذا يؤخذ بعين الاعتبار. وإذا زُعِم أن الدول المصدرة أجرت تقييمات للمخاطر، يجب أن تُراجع هذه المزاعم. إذا استمرّت الشركة المصنعة في تأمين العقود الحكومية بعد الفظائع المعروفة، فسيصبح ذلك أيضًا جزءًا من القصة.
السّياق القانونيّ منسوج بعناية في السرد. غالبًا ما يضع الصحفيون القضية ضمن الالتزامات الموضحة في صكوك مثل معاهدة تجارة الأسلحة أو الموقف الموحد للاتحاد الأوروبي أو قوانين الرقابة على الصادرات الوطنية. إنهم يسلّطون الضوء على مواضع أُهملت فيها واجبات التحقق، وأُبلغ فيها الوزراء بالتحذيرات، دقت فيها المنظمات غير الحكومية ناقوس الخطر، ومع ذلك مضت الصفقات قُدمًا. وتُعامَل الأطر القانونية لا كأدوات بيروقراطية مجرّدة، بل كوعودٍ نُقضت في مواجهة أضرار كان من الممكن توقّعها.
لا يُكتفى باستنتاج المسؤولية، بل تُلاحَق. إذ يتواصل الصحفيون مع الأطراف المتورّطة: شركات السّلاح، والوزارات، والمسؤولين. ويُمنح حقّ الرد بما يتماشى مع المعايير الصحفية. وغالبًا ما تكشف ردودهم — أو رفضهم الرد — بقدر ما تكشفه الوثائق الأصلية. ويُبلَّغ عن الصمت أو المراوغة أو الإنكار كما هو.
على مدار النص، يُولَى اهتمام دقيق للغة. تُستخدم المصطلحات التقنية بشكل محدود، ويتم شرحها عند الضرورة. النبرة متزنة. قوة التقرير لا تكمن في الجدل، بل في الأدلة. ولكي تتجاوز التّحقيقات نطاق الدعوة وتحدث تغييرًا في السياسات أو الأطر القانونية، يجب أن تصمد أمام التحديات — من المحررين، والمحامين، والنقاد على حد سواء.
يُعتبر الشكل أيضًا عنصرًا استراتيجيًا. سواء تم تقديم المحتوى كمقال طويل، أو تقرير وسائط متعددة، أو سلسلة من التقارير المترابطة، يتم اختيار الشكل بعناية حتى تصل القضية إلى أوسع جمهور ولضمان وضوحها. تُستخدم الأدوات البصرية — مثل مخططات الأسلحة، وصور الأقمار الصناعية، وسلاسل الإمداد المشروحة — بشكل متزايد لتوضيح الآليات المعقدة للضرر. يمكن أن تُعزز الجهود التعاونية مع محللي البيانات أو المصممين أو متخصصي الوسائط التفاعلية من سهولة الوصول إلى النتائج وتأثيرها.
في النهاية، مثل هذا التحقيق هو أكثر من مجرد ريبورتاج. إنه بناء قضية – قضية قد تفيد الإجراءات القانونية المستقبلية، أو تؤدي إلى فتح تدقيق حكومي، أو تشكيل الفهم العام للقضية. عندما يُنجز هذا العمل الصحفي بالتزام، يصبح أداة للمساءلة: فضح التواطؤ، والحفاظ على الذاكرة، ومقاومة الإفلات من العقاب.
أحد الأمثلة القوية التي تتبع هذا المسار هو مادة لعبة المُسيّرات في ليبيا (2020)، وهو تحقيق أجرته بي بي سي أفريكا آي وبي بي سي للوثائقيات العربية حول غارة شنتها مُسيّرة أسفرت عن مقتل 26 طالبًا أعزل في أكاديمية عسكرية في طرابلس في يناير 2020. استخدم التقرير صور الأقمار الصناعية والصور الجنائية الرقمية ورواية شاهد عيان لتتبع أصل المسيّرة وتبيّن أنّها مسيّرة صينية Wing Loong II تشغلها الإمارات العربية المتحدة – وهو انتهاك واضح لحظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة على ليبيا. من خلال إعادة بناء السرد الدقيق والأدلة المرئية، يكشف التقرير عن التأثير الإنساني للتدخل العسكري الأجنبي وعمليات نقل الأسلحة في النزاع الليبي، ويكشف عن كيفية نشر أنظمة الأسلحة الفتاكة مع القليل من الرقابة والعواقب المدمرة. إنه يمثل نموذجا للصحافة المرئية الغامرة التي تربط الجهات الفاعلة الحكومية بالانتهاكات المحتملة للقانون الدولي.

استخدم تحقيق أجرته هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) صور الأقمار الصناعية ووثائق رسمية لإظهار أن مسيّرات صينية، تديرها الإمارات، شُحنت سرًا إلى المطارات الليبية في انتهاك لعقوبات الأمم المتحدة. الصورة: لقطة شاشة، بي بي سي
الخلاصة: الصحافة كاختبار للسلطة
تجارة الأسلحة العالمية في جوهرها هي ممارسة للقوة، وتشكّلها التحالفات السياسيّة، ومصالح الشركات، والضرورات الاستراتيجية التي غالبًا ما يتم تبريرها تحت ستار الأمن القومي أو الضرورة الاقتصادية. ومع ذلك، فإن وراء اللغة المجرّدة المتمثلة في “القدرة الدفاعية” أو “نمو الصادرات” يكمن الواقع الإنساني الصّارخ المتمثِّل في المنازل التي تعرّضت للقصف، والأطفال الأيتام، والمستشفيات المتضرِّرة، وجرائم الحرب بكل أشكالها الرهيبة. في هذه اللحظات، يتحمل المدنيون الذين ليس لهم صوت في هذه المسألة عواقب القرارات السياسيّة المتَّخذة في مجالس الإدارة والوزارات البعيدة. الصحافة موجودة لسد هذه الفجوة.
من خلال تتبع رحلة السلاح من أرض المصنع إلى ساحة المعركة ، ومن خلال محاسبة أولئك الذين مكنوا استخدامه، يمكن للصحفيين القيام بأكثر من مجرد فضح المخالفات – يمكنهم إلقاء الضوء على الأرواح المفقودة أو المحطمة. في الصراعات التي تهيمن عليها البروباغاندا أو الصمت أو التهرُّب السياسي، يعتبر عمل الصحفيين شكلاً من أشكال المحافظة على الذاكرة العامة، وتوثيق الحقائق التي يفضّل الآخرون نسيانها.
دراسات الحالة
من يسلح إسرائيل؟ — Action on Armed Violence (AOAV)
المنهجية: هذا التحليل المتعمّق، الذي أشرف عليه إيان أوفرتون (مؤلّف هذا الفصل)، في الدعم العسكري المقدَّم لإسرائيل من دولٍ، منها المملكة المتحدة والولايات المتحدة وألمانيا، وسط الحرب المستمرة في غزة. وفحص التّقرير أكثر من 23 مليار دولار من عمليات نقل الأسلحة التي وافقت عليها الولايات المتحدة بعد أكتوبر 2023 وزيادة قدرها 10 أضعاف في صادرات الأسلحة الألمانية، مما يسلط الضوء على استمرار الإمدادات من المعدات العسكرية على الرغم من المزاعم الدولية المتزايدة بارتكاب جرائم حرب. تبنت AOAV نهجًا مختلطَ المصادر يرتكز على أبحاث مفتوحة المصدر وبيانات ترخيص تصدير الدفاع ووثائق المحكمة من الطعون القانونية. راجع الفريق بيانات من منظمات المراقبة مثل CAAT و SIPRI، وأجرى تحليلاً ماليًا باستخدام أدوات مثل Yahoo Finance لتتبع مبيعات الأسهم الشخصية من قبل المديرين التنفيذيين للأسلحة، والتحقق من النتائج باستخدام الإفصاحات الرسمية للشركة والتقارير الإعلامية. هذا التحقيق القائم على البيانات والخاضع للمساءلة العامة لا يكشف فقط عن تدفق الأسلحة، ولكن أيضًا الحوافز المالية لمصنّعي الأسلحة والمديرين التنفيذيين الذين يستفيدون من الحرب. تم الاتصال بجميع الشركات المذكورة للتعليق. لم يستجب أحد.
وُصفت الضربات الجوية التي تقودها السعودية في اليمن بأنها جرائم حرب. اعتمد الكثيرون على الدعم الأمريكي – واشنطن بوست
المنهجية: كشف هذا التحليل الاستقصائي الذي أجرته صحيفة واشنطن بوست (ومراقب قوات الأمن في معهد حقوق الإنسان التابع لكلية الحقوق بجامعة كولومبيا) كيف أسند الدعمُ الأمريكي الحملةَ الجوية للتّحالف الذي تقوده السعودية في اليمن – والتي قتلت آلاف المدنيين. بالاعتماد على قواعد بيانات تجارية مختلفة، والعقود المعلَنة، تتبع التحقيق كيف نفذت أسراب مدرّبة في الولايات المتحدة، ومسلّحة بطائرات مقاتلة وذخائر أمريكية الصنع، غارات جوية وصفها مراقبون مستقلون وخبراء الأمم المتحدة بأنها جرائم حرب محتملة. كما أشارت القصة: “راجعت صحيفة واشنطن بوست وSFM أكثر من 3000 صورة وبيانات إخبارية وتقارير إعلامية ومقطع فيديو متاحة للجمهور تحدد لأول مرة 19 سربًا من الطائرات المقاتلة التي شاركت في الحملة الجوية التي تقودها السعودية في اليمن”. ثم قام الصحفيون والباحثون بتحليل عقود الصيانة. وكشفوا كيف استمرّت التدخل الأمريكي لفترة طويلة بعد أن اقتصر الادّعاء الرّسمي بدعم على العمليات الدفاعية. أظهر هذا النهج متعدد الطبقات، الذي يجمع بين التحقق من الطب الشرعي وتحليل السياسات، التواطؤَ المستمر للحكومة الأمريكية في حملة تتسم بانتهاكات محتملة للقانون الإنساني الدولي.
ربطت صحيفة واشنطن بوست التّدريب والدعم الأمريكيين بأسراب السعودية وغيرها من أسراب الخليج الحلفاء التي نفذت غارات جويّة ومهام قصف في اليمن. الصورة: لقطة شاشة، واشنطن بوست
بزنس قاتل: تزويد جيش ميانمار بالأسلحة — المجلس الاستشاري الخاص لميانمار (SAC-M)
المنهجية: يرسم تقرير “بزنس قاتل” كيف طوّر جيش ميانمار وحافظ على مجمّع ضخم لتصنيع الأسلحة داخل البلاد، ويسأل عما إذا كان قد مكّن انتهاكات حقوق الإنسان. يجمع التقرير بين التحقيق مفتوح المصدر، وتحليل وثائق الميزانية العسكرية المسربة في ميانمار، وصور الأقمار الصناعية، وسجلات الاستيراد / التصدير، ومقابلات مع قرابة 30 شخصًا، بما في ذلك الجنود السابقون وخبراء تجارة الأسلحة. نشرت SAC-M نهجًا صحفيا متعدد الأوجه. تتبع المحققون سلاسل التوريد الدولية لقطع الغيار وراجعوا الوثائق المسربة المتعلقة بالميزانية العسكرية. لقد استخدموا تقنيات OSINT (استخبارات مفتوحة المصدر)، حيث بحثوا عن وسائل التواصل الاجتماعي باللغتين البورمية والإنجليزية. كشف التّحقيق كيف سهلت شركات من دول مثل النمسا وألمانيا والولايات المتحدة وفرنسا واليابان وتايوان والهند والصين وسنغافورة، عن قصد أو بغير قصد، إنتاج المجلس العسكري للأسلحة من خلال توريد المكونات والآلات والبرمجيات الحيوية.
المصادر والروابط الرئيسية
- معاهدة تجارة الأسلحة:
- Bellingcat
- Bomb Techs Without Borders
- Fenix Insight
- ForeignAssistance.gov
- بوابة الذخائر مفتوحة المصدر
- قاعدة بيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام لنقل الأسلحة
- بيانات ترخيص التصدير الاستراتيجي في المملكة المتحدة
- تقارير الأمم المتحدة لحقوق الإنسان
- تقارير القسم 655 في الولايات المتحدة
د. إيان أوفرتون هو المدير التّنفيذي للعمل على العنف المسلح (AOAV)، ويقود أبحاث منظمته ومناصرتها للعنف المسلح العالمي. “إفرتون” صحفي سابق في هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) وآي تي إن، كتب تقارير من أكثر من عشرين منطقة نزاع ويقدم بانتظام بيانات AOAV في الأمم المتحدة والمنتديات الرئيسية الأخرى. وهو عضو خبير في منتدى تجارة الأسلحة وفي مجلس إدارة مركز دراسة الأسلحة والمجتمع في جامعة ويسليان، وهو مفوض مشارك في تحقيق لانسيت في العنف المسلّح والصحة العالمي. كتب الدكتور أوفرتون لمنشورات عديدة منها Byline Times و The Guardian و LA Times و Huffington Post. فاز عمله بجائزة بيبودي، وجائزتين من منظمة العفو الدولية، وجائزة OneWorld Media، و Prix Circom، و BAFTA Scotland ، وتم إدراجه في القائمة القصيرة لثلاث جوائز من جمعية التلفزيون الملكية وجائزة جمعية الصحافة الأجنبية. وهو حاصل على درجة الدكتوراه عن تقاريره الحربية من جامعة بورتسموث ودرجة الماجستير من جامعة كامبريدج. صاحب كتاب Gun Baby Gun (Canongate ، 2015) و The Price of Paradise (Quercus ، 2019) ، وكلاهما مترجم على نطاق واسع.