الكتيبة: مجلّة رقميّة تونسية تأمل أن تغيّر الصّحافة في المنطقة
إقرأ هذه المقال في
في تونس، حيث اندلعت الاحتجاجات الأولى للرّبيع العربي، يحاول موقعٌ ناشئٌ أن يركّز على الصّحافة الاستقصائيّة ورواية القصص للاستفادة من حرّيّة الإعلام النّسبيّة في البلاد في كسب القراء.
الكتيبة مجلّةٌ رقميّةٌ تفاعليّة متعدّدة اللغات. أسّسها الصّحفي المخضرم “وليد الماجري” سنة 2020، وهو مديرها الحالي. رأى “الماجري” مساحةً لمنصّةٍ مستقلّة في المنطقة. في عامه الأوّل فقط، جذب الموقع أكثر من ستّة ملايين مشاهدة وفاز بست جوائز محليّة وإقليميّة ودوليّة، بحسب “الماجري”.
ويقول: “تهدف الكتيبة إلى نشر الصّحافة الجيّدة، بما في ذلك الصّحافة الاستقصائيّة وصحافة البيانات والصّحافة التّفسيريّة”، مضيفًا أن هذه العناصر الثلاثة تشكل “الحمض النّووي التّحريري” للموقع.
تنتجُ المجلّة الرّقميّة محتوىً استقصائيًا وتوضيحيًا حول الكثير من المواضيع المتعلّقة بالفساد والتهرُّب الضّريبي والإفلات من العقاب وإساءة استخدام السلطة، بالإضافة إلى مواضيع تمّ تجاهلها مثل الهجرة وقصص عن المرأة.
تحقيقات الكتيبة لها أثر. تحقيقُ الكتيبة “سواغ مان: الوجه الآخر لفنّان احترف الاحتيال والتّدليس وتبييض الأموال” دفعَ البنكّ المركزيّ التّونسيّ إلى تجميد أموال محتالٍ مشتبهٍ به وفتح تحقيقٍ جنائيٍّ جديد بعد أن أفرج عنه القضاء. كما أثارتْ قصّةٌ عن إخفاقات الاقتصاد التّونسي ردّ فعل علنيٍّ من الرّئيس التّونسي.
يشير “الماجري” إلى ثلاثة عناصر ساعدت في إبراز عمل الموقع:
– التّحقيقات العابرة للحدود التي أثارت غضبًا شعبيًا في أكثر من دولة. بعض الأمثلة: تحقيق في الهجرة غير الشّرعيّة بين تونس وليبيا وأوروبا، والتّعاون مع مشروع الجريمة المنظّمة والفساد حول شراكةٍ تونسيّة مع بنكٍ سويسري.
– المحتوى الجذّاب، مع لقطات فنّيّة باستخدام أحدث التّقنيات الرّقميّة، وتصوير البيانات بشكلٍ جذّاب، والعروض المُبسَّطة للمعلومات المعقّدة. وهذا يجعل عمل المجلة في متناول الجمهور الأوسع، وليس فقط للنّخبة.
– النّشر المنتظم. تنشر الكتيبة ما لا يقلّ عن أربعة تحقيقات شهريًا بالإضافة إلى تقارير ومقالات ومقاطع فيديو توضيحيّة أخرى. يساعد جدول النّشر في الموقع على خلق جمهورٍ مخلصٍ ومتقبّل، وفقًا لـ”الماجري”.
تمّ قبول الكتيبة في الشّبكة العالميّة للصّحافة الاستقصائيّة في ديسمبر 2021. ولاستكشاف تأثير الموقع الجديد، أجرت الشّبكة مقابلات مع ثلاثة أشخاص من طاقم الكتيبة ومقابلةً مع شخص خارجي للاطّلاع على كيفية اكتساب هذه الموقع النّاشئ الصّغير سمعة طيّبة في إعداد التقارير المتعمّقة وكيف يتعامل مع مشهدٍ صحفيّ معقَّد.
استغلال هامش الحريات في تونس
يعود الفضل في نجاح الكتيبة المبكّر، جزئيًا، إلى التّغييرات التي شهدتها تونس خلال الرّبيع العربي. كانت حرّية الصّحافة واحدةً من الإنجازات الرّئيسيّة للثّورة، بعد أن أُجبر الرئيس آنذاك “زين العابدين بن علي” على التّنحّي سنة 2011.
ورغم المخاوف من استيلاء الرّئيس الحالي “قيس سعيد” على السلطة مؤخرًا، إلا أن البلاد ما زالت تحتلّ مرتبةً أعلى من جيرانها في مؤشّر حرّية الصّحافة لمنظّمة مراسلون بلا حدود، حيث تحتلّ حاليًا المرتبة 94 من أصل 180 دولة (أفضل من اليونان أو البرازيل).
كانت فكرة الموقع في المرحلة المفاهيميّة منذ الثّورة. استغرق الأمر بعض الوقت قبل أن يشعر “الماجري”، الذي شارك في تأسيس منصّة أخرى من المنصّات الشريكة في الشّبكة في تونس “إنكفاضة“، بأن الظروف كانت مناسبة لموقع مثل الكتيبة. في البداية، كان حذرًا من إطلاق المنصّة بينما كانت وسائل الإعلام المستقلّة في تونس تراهن فقط على سمعتها، وكانت قدرتها على جذب الجمهور الواسع محدودة. إلا أنّه اقتنع مع مرور الوقت بالحاجة إلى منصّة إخباريّة مستقلّة تعطي صوتًا باستمرار لمن لا صوت لهم.
ويأمل أيضًا أن يصبح الموقع لاعبًا إقليميًا في مجال الإعلام. تنشر الكتيبة حاليًا باللغة العربيّة الفصحى وباللهجة التّونسيّة، وتخطّط قريبًا لإطلاق الموقع بالإنجليزيّة والفرنسيّة وتهدف إلى توسيع نطاق انتشارها في المنطقة.
يقول “محمد يوسفي”، رئيس تحرير الكتيبة، إنّه بالرغم من التّحدّيات السّياسيّة الأخيرة في تونس، إلا أن البلاد ما تزال أفضل للعمل الصحفي مقارنةً بدول شمال أفريقيا الأخرى مثل مصر أو ليبيا أو المغرب.
ورغم أن الرّئيس اتّخذ خطوات لخنق المجال العام، إلا أنّ “يوسفي” يقول: “إن هامش الحرّيات في تونس هو الأفضل في شمال أفريقيا، لذلك نستخدم هذا الهامش لمعالجة مواضيع تبدو محرّمة في بقيّة المنطقة، حيث ينتهي المطاف بالصّحفي الذي يكتب عن الرّؤساء والملوك وكبار المسؤولين السياسيين، والميليشيات أو القادة العسكريين أو رجال الأعمال المؤثرين، إمّا بالسّجن أو الاعتقال أو الاختفاء القسري أو حتى القتل”.
ويضيف “يوسفي” أن قرابة 50٪ من تحقيقات الكتيبة تتعلّق بتونس، حيث يعمل الصّحفيون أيضًا على مواضيع وتحقيقات تهمّ مصر وليبيا والمغرب والجزائر، وبعضها تحقيقات عابرة للحدود.
التّعطُّش إلى “الصّحافة الجيّدة”
نشرتْ صحفيةُ التّحقيقات الدّوليّة في الكتيبة “رحمة باهي” مقالات عن الفساد والتهرُّب الضّريبي واسع النّطاق، وغسيل الأموال، والاتّجار بالبشر، والبيئة.
وتقول: “من الضروري طرق كل الأبواب من أجل التّحقيقات، والنّظر في كلّ طريق للحصول على المعلومات أو الوثائق، لذلك نحاول قدر الإمكان الوصول إلى المصادر من خلال علاقات خاصّة، وبفضل سمعة ومصداقيّة الكتيبة”.
من أكبر تحقيقاتها “مراكز التّدليك في تونس: استغلال جنسي واتّجار بالبشر بتواطؤ من بعض الأمنيين”، وتحقيق كشفَ كيف انتهكتْ شركةُ طيران تأسست بعد الثّورة معاييرَ سلامة الطّيران ولم تدفع رواتب موظّفيها ودائنيها.
كما عملت على تسريب “أسرار سويسريّة” الذي كشف عن حسابات مصرفيّة خفيّة لسياسيين وشخصيّات تونسيّة بارزة في بنك “كريدي سويس“، وتحقيق عن سوء معاملة الشرطة والقضاء لمجتمع المثليين في تونس.
تقول “باهي” إن التّركيز على الجانب الإنسانيّ مهمٌّ دائمًا في تحقيقاتها، حتّى التحقيقات التي تتناول الجرائم الماليّة أو الفساد، لجذب القراء وإحداث أثرٍ أكبر.
وتضيف: “أحاول أيضًا تبسيط الجوانب التّقنيّة التي تتضمّن الكثير من الأرقام أو المعلومات العلميّة بتحويلها إلى رسوم بيانيّة تبسّط القضايا التّقنيّة المعقّدة في العادة”.
تقول “باهي” إن فريق تحرير الكتيبة ملتزمٌ بإعداد تقارير الوسائط المتعدّدة، لذلك لا يشمل التّحقيق المعلومات والحقائق الموثّقة فحسب، بل يشمل أيضًا الخرائط التّفاعليّة والرّسوم البيانيّة ومقاطع الفيديو التّوضيحية القصيرة والصّوت.
كما يتخفّى الصّحفيون عندما تقتضي الحاجة. وتقول: “عندما حققنا في شبكات الاتّجار بالبشر في مراكز التّدليك التي كانت أوكار للاستغلال الجنسي للفتيات، دخلنا متخفّين إلى بعض المراكز لاستكشاف القضيّة من الدّاخل”.
يتمّ اختيار مواضيع التّحقيق بعد “العصف الذهنيّ الجماعيّ” في الاجتماعات التّحريريّة، بحسب “يوسفي”، ويقول إن الموقع لديه أيضًا “خط هاتف خاصّ” للرّاغبين بتقديم معلومات أو تسريبات.
قد تستغرق بعض المشاريع من خمسة إلى ستّة أشهر، بينما تستغرق تحقيقاتٌ أخرى وقتًا أقلّ. يبحث الفريق في البيانات والتّقارير التي قد تحتوي قصصًا مهمّة، ولكن يتمّ تجاهلها من قبل معظم المنصّات الإعلاميّة.
يقول “يوسفي”: “نبحث دائمًا ونجري كل التّدقيق والتّمحيص اللازم لتطوير المشاريع الاستقصائيّة أو المقالات التّوضيحيّة أو المحتوى السّمعي البصريّ بشكلٍ جذّاب ومستساغ فنيًا وصحفيًا”. وقال إن الموقع اكتسب مصداقيةً أيضًا من خلال تجاهل الموضوعات “الساخنة” التي تحظى بتغطية كثيفة من قبل وسائل الإعلام التّجاريّة.
تعدّ حماية المصادر وفحص الحقائق أجزاء رئيسيّة أخرى من بروتوكول الكتيبة.
يقول “يوسفي”: “نحمي دائمًا مصادرنا والسّلامة الرّقميّة لكلّ بياناتنا المخزنة. نؤمّن رسائلنا الإلكترونيّة ومكالماتنا الهاتفيّة والمنصّات التي ننشر عليها. قبل إجراء مقابلات المواجهة مع الجهات المعنيّة، ندرس الفرضيّات المحتملة ونُعدُّ أنفسنا لكلّ الرّدود المحتملة وحتى المخاطر التي قد يتعرّض لها الصّحفيّون”.
“وأخيرًا، نجري قراءات متعدّدة لمراجعة المعلومات والحقائق، وتخضع بعض القصص لثلاث جولات من التّعديلات” بحسب “يوسفي”.
تقول الدّكتورة “حميدة البور”، مديرة معهد الصّحافة وعلوم الأخبار في تونس، إن فريق الكتيبة يتمتّع بالخبرة والتّقدير، كما نالت تحقيقاتُ الموقع الثّناءَ لأنّها تُجرى بعمقٍ ودقّة.
وتقول: “هناك العديد من وسائل الإعلام الأخرى التي تغطّي الأحداث حال وقوعها، لكن الكتيبة اختارت الصّحافة الاستقصائيّة والتّفسيريّة، وتقدّمها باستمرار بطريقة تقرّبها للقرّاء”. أمّا بخصوص التّحقيقات فتقول إن “التّقنيات المتقدمة … سواء في الصحافة التّفسيريّة أو التّحقيقات أو المقابلات القويّة” تجعل الموقع متميزًا.
طموحات خارج تونس
يتكوّن فريق الكتيبة حاليًا من خمسة عشر موظفًا بدوام كامل، منهم صحفيّون وفنّيون وإداريّون، وسبعة مراسلين مقيمين في الخارج، ينتجون المحتوى حسب الحاجة.
يتألّف نموذج تمويل الموقع من ثلاثة محاور أساسيّة: مِنح من منظّمات مثل “تكلّم” (وهي منظّمة غير حكوميّة معنيّة بحرية التّعبير تدير موقع الكتيبة) ومن عدد من المنظّمات الإقليميّة والدّوليّة (بما في ذلك الصّندوق الأوروبيّ للديمقراطيّة، والصّندوق الوطنيّ للديمقراطيّة، والمعهد العربي لحقوق الإنسان) التي تدعم وسائل الإعلام المستقلّة، والشّراكات مع منظّمات أخرى لخفض تكلفة الإنتاج، والتّمويل الذاتي. هذا الفرع الأخير الذي يشكّل 30٪ من إيرادات الكتيبة، يُدار من قِبل فريق الكتيبة الفنّي وليس من قِبل الصّحفيين، وله أنشطةٌ مثل تأجير استوديو التّسجيل الخاصّ بالمجموعة، وتأسيس وتطوير المواقع الإلكترونيّة، وتقديم الدّعم التّقني للتّسجيل والتّصوير، والاستشارات لمشاريع المنظّمات غير الحكوميّة في تونس.
بلغتْ ميزانية عام 2021 حوالي 150,000 دولار أمريكي. جُمع ثلثا المبلغ من المِنح والشّراكات والتّمويل، بينما جاء الباقي من تيّار التّمويل الذّاتي للمجموعة. في عام 2022، زادت الميزانية لتصبح 200.000 دولار مع إطلاق قسمٍ مرئيّ واستوديو يعمل فيه الصّحفيون على برامج وثائقيّة واستقصائيّة وحواريّة.
يرى “الماجري” فرصًا وتحدّياتٍ في التّوسُّع خارج تونس. ويقول إن المنطقة مليئة بالمجتمعات الصّحراويّة المنسيّة، منْ مصر حتّى موريتانيا. ورغم الثّراء الثّقافي والاجتماعي في هذه البلدان، فإن ضعف التّغطية الإعلاميّة، والتّحيُّز في نقل الرّواية الرّسميّة، والتّركيز على مواضيع معيّنة كالنّزاع المسلّح والهجرة غير النّظاميّة، يعني أن المنطقة لا تتلقّى تغطيّةً دوليّةً بالقدر الكافي، كما يقول. ويريد “الماجري” أن تنقل الكتيبة القصص المتباينة في هذه المناطق إلى جمهورٍ أوسع في الوطن العربي والعالم.
لكن المشهد الصّحفيّ معقّد: فصعوبة الوصول إلى المعلومات والافتقار إلى الحمايّة القانونيّة الفعالة من أكبر العقبات التي تواجه الصّحافة الاستقصائيّة في شمال أفريقيا. وفي الوقت نفسه، تسيطر جماعات الضّغط الماليّة والأمنيّة والعسكريّة – وخاصّة في مصر والجزائر والمغرب – على الحياة العامّة وتستخدم أجهزة الدّولة ووسائل الإعلام الموالية للحكومة لشيطنة الصّحفيين الاستقصائيين، مما يقوّض مصداقيتهم.
هنالك تحدّيات حتّى في تونس. تعرّض “الماجري” لملاحقات قضائيّة وتعرّض لهجمات شخصيّة بسبب عمله الاستقصائيّ، وتمّ استهداف الموقع نفسه.
ويوضح “الماجري” أن “الكتيبة خلال تجربتها القصيرة تعرّضت لمحاولات قرصنة مستمرّة، بعضها من دوائر موالية للسّلطة، والبعض الآخر من أفراد وكيانات تم الاستقصاء عنها، وكشف الموقعُ فسادها”. لقد استخدموا أشخاص لمحاولة اختراق الموقع، بينما كان يستهدفوه بحملات التّشهير”.
ويقول: “لقد تعرّضتُ شخصيًا للكثير من الملاحقات الأمنيّة والقانونيّة بسبب حساسيّة تحقيقاتنا، وللهجمات على سيّارتي أكثر من مرّة، ولمحاولات اختراق حساباتي على وسائل التّواصل الاجتماعي، فضلاً عن حملات التّشهير التي قام بها عدد من الصحفيين المأجورين“.
كما تعرّض اليوسفي لتهديداتٍ تطلّبت تدخُّل الأجهزة الأمنيّة لحمايته وعائلته.
لكن تجربة السّنوات القليلة الماضية عزّزت قناعة “الماجري” بالحاجة إلى مؤسّسةٍ إعلاميّة رقابيّة قريبة من الجمهور: صحافة مستقلّة تتحدّث باسم النّاس وتحقّق في مشاكلهم.
وقال “طموحنا أن نكون مرجعًا ومصدرًا للمعلومات الموثوقة في تونس وشمال إفريقيا، ونطمح أن نكون خلال خمس سنوات منصّةً إعلاميّةً رئيسيّة ومؤثِّرة في المشهد التونسي”.
هذه القصة هي الأحدث في سلسلةٍ تبحث في الصّحافة الاستقصائيّة في منطقة الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا.
أحمد حاج حمدو صحفيٌّ سوريّ. خرّيج كلية الإعلام في جامعة دمشق، نشر قصصًا مع شبكة أريج، و”درج”، و”الغارديان” ووسائل إعلام أخرى. أحدُ مؤسّسي وحدة التّحقيقات الاستقصائيّة السّوريّة من أجل صحافة المساءلة( سراج)، والوِحدة عضو في شبكة GIJN تركّز على تدريب الصّحفيين السّوريين.