أقارب فلسطينيون ينعون جثمان الصحفي أكرم الشافعي الذي توفي في 6 يناير 2024 متأثرا بإصابته خلال غارة جوية إسرائيلية على قطاع غزة. الصورة: شترستوك
الفقد والدمار والإصرار على الاستمرار, كيف غطت مؤسسات صحافية عربية الحرب على غزة
إقرأ هذه المقال في
لقد تسببت الحرب على غزة في خسائر فادحة، حيث قُتِلَ أكثرَ من 34000 فلسطيني، وتضررت مساحاتٌ شاسعةٌ من القطاع بسبب القصف، ويعيش السكان حالياً أزمة إنسانية.
أصبح نقل الخبر أمراً في غاية الصعوبة بسبب الدمار الهائل، وانقطاع الإنترنت، وانقطاع الكهرباء بشكل شبه كامل.
خلّف النزاع آثاراً مدمرةً على حياة الصحفيين خاصةً. وبحسب سجلات لجنة حماية الصحفيين قُتِلَ خلال الحرب 97 إعلامياً حتى الآن – من بينهم 92 فلسطينياً وثلاثة لبنانيين وإسرائيليّين – مما يجعلها “الفترة الأكثر دموية للصحفيين منذ أن بدأت لجنة حماية الصحفيين بجمع البيانات في عام 1992”.
وفي حصيلة أخرى، يشير المكتب الإعلامي للسلطات في غزة إلى رقمٍ أعلى، حيث قُتِلَ 140 صحفياً في القطاع منذ أن بدأت إسرائيل هجومها الجويّ والبري في أعقاب الهجوم المميت الذي شنته حماس على إسرائيل في أكتوبر الماضي.
كان نقل القصص، التي تروي بعمقٍ ما يحدث هناك، منوطاً بالمراسلين المحليين ووسائل الإعلام الإقليمية، الذين يعملون عن كثبٍ مع الموجودين على الأرض. وحتى الآن يواجه الصحفيون الدوليون صعوبة كبيرة في الوصول إلى غزة.
تحدثنا إلى ثلاث جهات لنتعرف على طريقتهم في تغطية النزاع والمشاريع التي يقومون بها، وكيف يتأقلم موظفوهم مع الظرف الحالي، ولمعرفة ما إذا كانوا قادرين على إجراء تحقيقاتٍ صحفية في خضم الحرب.
الصورة التي يرسمونها قاتمة: الصحفيون في غزة، كما قالوا لنا، يخشون على حياتهم. فقد العديد من المراسلين عدداً كبيراً أفراد أسرهم في الغارات الإسرائيلية، وعلى الرغم من العثور عليه مؤخراً، إلا أن أحد مراسلي وكالة وطن للأنباء اختفى لعدة أسابيع. وأُجبِرَ بعض الموظفين على التوقف عن العمل، ويعاني البعض الآخر مع الآثار النفسية لنقل قصص الحرب، أو مشاهدة لقطات للمذابح التي تسببها الغارات الجوية في المناطق المكتظة بالسكان.
دعم الزملاء من الخارج
قالت روان الضامن، المديرة العامة لشبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج)، “فَقَد اثنان من صحافيينا جميع أبنائهما”. تعد أريج منظمة عضو في الشبكة العالمية للصحافة الاستقصائية والتي تكرس جهودها لتعزيز الصحافة الاستقصائية في جميع أنحاء العالم العربي. أضافت الضامن قائلةً: “فقد بعض الناس منازلهم وجميع ممتلكاتهم”.
عندما بدأ التوغل البري والجوي الإسرائيلي، تواصل الموظفون في المنظمة، التي تتخذ من الأردن مقراً لها، مع زملائهم في غزة لسؤالهم عن الدعم الذي يحتاجونه. في حين أن المنظمة لم تعمل في مجال المشتريات والمساعدات الطارئة من قبل، إلا أن مناشدات المساعدات الفورية ركزت على المتطلبات اليومية للبقاء على قيد الحياة، لذا بدأت أريج في توفير المعدات والخيم والمراتب، ومن ثم المعدات اللازمة لنقل الأخبار.
قالت الضامن: “بدأنا نتلقى الكثير من الطلبات”. تعمل أريج مع حوالي 22 صحفياً استقصائياً ومدققي حقائق في قطاع غزة، وعمل الكثير منهم لسنوات مع أريج. تضيف الضامن: “بدأوا يطلبون المساعدة في توفير الخيم. وساعدنا بعض الصحفيات في الحصول على خيم لأنهن لم يمتلكن مكاناً للمبيت، وكان من الصعب عليهن أن ينمن في محيط الرجال أو في الخارج. كما ساعدناهم في الحصول على الاحتياجات الأساسية مثل المراتب والأغطية وأشياء من هذا القبيل”.
وفي حين قال بعض المراسلين لأريج إنهم لا يستطيعون مواصلة عملهم الصحفي، طلب آخرون المساعدة ليستمروا في تغطيتهم وذلك باستبدال معداتهم التالفة أو المفقودة. وعلى الرغم من أن المنظمات الدولية كافحت لإدخال المساعدات إلى المنطقة، إلا أن أريج وجدت أن وجود معارف على الأرض قد ساعد في تحقيق ذلك.
“بدأنا العمل على استبدال معداتهم. بدأنا بشراء معدات من داخل غزة، مثل الهواتف المحمولة وأجهزة الحاسوب المحمولة والكاميرات والميكروفونات وأنظمة الطاقة الشمسية، والأشياء التي يحتاجونها بشكل عام للقيام بعملهم”.
وقد ساعدوا حتى الآن حوالي 96 صحافياً في غزة، لكن الحاجة كبيرة. وصلت حملة التمويل الجماعي إلى نصف هدفها فقط البالغ 100,000 دولاراً أمريكياً.
وقالت الضامن: “إننا ننفق المال حتى قبل وصول التمويل وذلك لكثرة الطلبات. كما أن الأشياء الآن باهظةُ الثمن. فالحاسوب المحمول الذين كان يُكلّف 500 دولار، يبلغ ثمنه اليوم 2000 دولار.”
وعلى الرغم من أن أريج تعملُ على مشاريع استقصائية، إلا أن ذلك عادةً ما يحدث هذا بعد انتهاء النزاع. توضح الضامن: “ولكن، استثناءً في غزة، نعمل على موضوعين. أحدهما [مع] أحد الائتلافات، والآخر هو تحقيق نعمل عليه بمفردنا. إلا أنه مشروع على المدى الطويل وسيستغرق وقتاً.” وأضافت: “لكننا لا نطلب من صحافيينا على الأرض العمل عليه، وذلك لعدم استطاعتهم [خلال الظرف الحالي]. لذا ننجز ما يمكننا عمله عن بُعد مع إشراكهم بطريقة بسيطة.”
التغطية من غزة
بعد وقت قصير من اندلاع النزاع، طلبت وكالة وطن للأنباء من مراسليها في غزة التركيز على توثيق الأدلة على جرائم حرب محتملة وتسجيل شهادات الناس.
إلا أنهم يعملون في أصعب الظروف. قال معمر عرابي: “كان لدينا مكتب في غزة […] لكنه دُمِّر”. معمر عرابي هو رئيس التحرير في وكالة وطن، التي لديها سبعة أعضاء من الفريق ينقلون الأخبار من القطاع. أضاف عرابي: “فقد اثنان من الفريق عائلاتهما بأكملها، حيث كانوا يغطون الحرب عندما ضُرِبا منزليهما. لقد تعرض هؤلاء الصحفيون لصدمة نفسية”. إضافةً لذلك، فقد اختفى أحد مراسليهم، ولمدة من الوقت، لم يكونوا على دراية إذا ما كان “حيا أم ميتاً”.
قال عرابي: “لقد خسرنا مكتبنا ومعداتنا، لذلك نصور باستخدام الهواتف المحمولة. إلا أن انقطاع الكهرباء والإنترنت هي مشكلة تواجهها في بعض الأحيان. لذا قد يستغرقنا الأمر يومان لتصلنا الصورة [من غزة]. لذا نضطر للعمل بطريقة بدائية جداً. ولكننا مع ذلك نستمر في التوثيق.”
يُستخدم جزءٌ من هذا المحتوى في مشروعٍ صحافي يسمى “أصواتٌ من غزة”. أوضح عرابي: “في الأشهر الستة التي تلت بدء الحرب، سجلوا حوالي 1,400 قصة. هدفنا هنا هو توثيقي … إنه ليس برنامجاً سياسياً، أو تغطيةً إخبارية، إنه مشروعٌ إنساني”.
ويقول إن الصحافيين يواجهون تحديات في الضفة الغربية أيضاً، حيث وجد الموظفون أن حركتهم مقيّدةٌ بشدةٍ. ويقول أيضاً إن الصحافيين لديهم تخوفٌ من كونهم غير آمنين في هذا النزاع، وحتى عند ارتدائهم عدة السلامة التي تشير بوضوحٍ إلى أنهم صحافيون.” وقال: “عند إطلاقهم النار، لا يُفرِّقُ الإسرائيليون ما إذا كنت صحفيا يرتدي عدة الصحافة.” (إسرائيل تنفي بشدة استهدافها الصحفيين، مُدّعيَةً أنها تستهدف حماس فقط. غير أن المنظمات المحلية والدولية تعارض ذلك، قائلةً إن أدلتها تشير إلى استهداف العاملين في الصحافة عمداً.)
أما الآن، ومع متطلبات تغطية وقائع النزاع اليومية تحد من قدرتهم إعداد تحقيقات صحافية معمّقة.
وقال عرابي: “ينصب تركيزنا حالياً على جمع الأخبار وتوثيق الجرائم التي تُرتكَب”. لا نملك الوقت لإجراء تحقيقات، وسنترك ذلك إلى ما بعد الحرب. ومع ذلك، فإننا نجمع أكبر قدرٍ ممكنٍ من الأدلة والبيانات، لأننا سنحتاجها لاحقاً”.
عبر الحدود
يُعَدُّ المصدر العام عضواً في الشبكة العالمية للصحافة الاستقصائية، كما أنه جهةٌ إعلاميةٌ مستقلة، مقرها في لبنان. وقد كرّست الكثير من تغطيتها على مدى الأشهر القليلة الماضية لتغطية الحرب في غزة وآثار النزاع غير المباشرة على لبنان.
ويُجري الفريقُ تحقيقاتٍ مفتوحة المصدر فيما يخص هجمات إسرائيلية محددة على القطاع الفلسطيني وينقلُ قصصاً معمّقة عما يحدث في لبنان، حيث تشتبك جماعة حزب الله، المدعومة من إيران، والجيش الإسرائيلي منذ أشهر.
وبحسب رئيسة تحرير المصدر العام، لارا بيطار، يعمل الفريق أيضاً على التصدي لبعض الروايات الإسرائيلية التي تبرر النزاع وذلك بالتعاون مع فريق التحقيقات مفتوحة المصدر في نوى للإعلام ((NAWA Media. وجد أحد تحقيقاتهم أن إسرائيل على الأرجح مسؤولة عن هجوم مميت على قافلة من النازحين في شارع صلاح الدين في غزة في 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وهو ادعاء ينفيه الجيش الإسرائيلي. وجاء تقرير آخر في أعقاب الهجمات الإسرائيلية على عدد من المدارس التي تديرها الأونروا، والتي يستخدمها الفلسطينيون النازحون كمأوى، في غزة في تشرين الثاني/نوفمبر.
كما قالت بيطار للشبكة العالمية: “عندما يتعلق الأمر بجنوب لبنان، وعلى الرغم من خطورة إرسال صحافيينا لتغطية الأخبار على الحدود، فإننا نتواصل مع السكان المتضررين من القصف الإسرائيلي حتى يتمكنوا من سرد قصصهم.” وتناولت إحدى أحدث قصصهم استخدام إسرائيل المزعوم لذخائر الفسفور الأبيض الحارقة وشديدة السمية.
وقالت إن الجميع في المنطقة متأثرون بالنزاع، وذلك وسط مخاوف من تصاعده خارج غزة وإسرائيل.
كما قالت بيطار: ” بالدرجة الأولى، سيؤثر التصعيد الأوسع علينا كأفراد يعيشون في لبنان، وذلك قبل النظر في تأثيره على عملنا وتحقيقاتنا. إننا على أعصابنا منذ ستة أشهر، حالنا كحال الجميع في لبنان، باستثناء أهل الجنوب الذين يتعرضون لقصفٍ يومي.”
وأضافت: ” بصفتنا منظمة إعلامية ولدت خلال الأزمات، فقد تعلمنا تكييف وتعديل أولوياتنا التحريرية بسرعة، إلى حد ما، مع استمرارنا في العمل على القصص الكبيرة التي تهم قرائنا”.
الصدمات النفسية في الحرب
إن سلامة وأمن الصحافيين قضية حرجة في هذا النزاع، ولا تقل الآثار النفسية لنقل الخبر والتحقيق في الحرب أهمية عنها.
أوضح عرابي من وكالة وطن: “يعاني بعض زملائنا من صدماتٍ عاطفيةٍ واكتئابٍ عميقين. فقدت إحدى زميلاتنا [في غزة] جميع أفراد عائلتها الـ 17 وفقدت أخرى أربعةً من أسرتها. لا يعرف أحد ما الذي سيحمله الغد لهم. تُخيّم حالة من الارتباك والضبابية على الوضع. أصبحت الحياة والموت سيّان”.
وقالت الضامن، من أريج، إن الأمر لا يتوقف عند الأشخاص في غزة. فحتى أولئك من هم خارج قطاع غزة، الذين يتلقون ويتابعون الأخبار والمواد التي تغطي النزاع، يعانون أيضاً.
“لقد تعرض فريقنا لصدمة. إننا نتحدث إلى الصحفيين، ولدينا زملاء يتحدثون إلى الصحفيين في غزة كل يوم، وهذا بالطبع يعرضكم لأشياء لم تعتادوا عليها. كما أن البعض مسؤولين عن التحقق من الحقائق ومقاطع الفيديو، مما يضطرهم لمشاهدة مقاطع الفيديو التي توثق المذابح لعدة مرات.”
قالت الضامن: “تَحلُم إحدى زميلاتنا أن أطفالها يموتون، ولكنها تعيش في عمان، وليس في فلسطين. لذا قررنا أننا بحاجة إلى توفير خدمات دعم الصحة النفسية. في كل خميس، تأتي طبيبة نفسية وتقدم نوعاً من العلاج الجماعي وجاهياً وعبر الإنترنت. كما أنها متاحةٌ للاستشارات الفردية”.
كمحرر، هناك أسئلة تتعلق بالمسؤولية أيضاً، كما قال عرابي، إلا أن الإجابات في كثيرٍ من الأحيان تكون صعبةً. وعندما سأله أحد أعضاء فريقه عما إذا كان عليها الذهاب لتغطية هجومٍ إسرائيلي على مستشفى الشفاء، الذي كان في يوم من الأيام أكبر وأهم مستشفى إحالة في غزة، نصحها بالبقاء بعيداً. “قلت لها: ‘أرجوكِ، حفاظاً على حياتك، لا تغادري المنزل’. قالت لي: مستحيل. طلبت منها مرة أخرى البقاء في المنزل وأنهينا المكالمة. لكنها قررت الخروج وتغطية الهجوم». وبعد ساعة تعرض منزلها للقصف. “لو أنها ظلّت في المنزل، لقُتِلَت. أحياناً يكون الميدان أكثر أماناً من المنزل”.
نادر درغام صحفي يعمل مع ميدل إيست آي وسكاي نيوز، ويغطي حرب غزة وامتداداتها في لبنان. عمل مع صحيفة واشنطن بوست في بيروت، حيث غطى لبنان وسوريا، بما في ذلك إعداد تقارير عن انفجار مرفأ بيروت، والأزمة الاقتصادية، والقضايا السياسية والإنسانية في جميع أنحاء سوريا. تخرّج من الجامعة الأمريكية في بيروت وحصل على درجة الماجستير في الديمقراطية والسياسة المقارنة من كلية لندن الجامعية.