إعداد إمكانية الوصول

خيارات الألوان

لون أحادي لون باهت مظلم

أدوات القراءة

عزل حاكم

القصص

صحافة الاستقصاء عربيا.. التأرجح على الحافة

English

بصرف النظر عن هوية المسؤول السعودي الذي اتخذ قرار اغتيال الصحفي جمال خاشقجي وتقطيع أوصاله بمنشار عظم، لا بد أنه كان يعتقد أنه سيفلت من العقاب. عملية القتل هذه لم تكن مهمة انتحارية.

دخل فريق الاغتيال المؤلف من 15 عنصراً إلى تركيا دون تخف؛ وصلوا اسطنبول وغادروها تاركين خلفهم ذهولاً كونياً إلى جانب بصمات، أدلّة وقرائن عن فعلتهم أثناء توقفهم المؤقت هناك.

تصرفوا بلا خجل وبثقة عالية في النفس.

حتى اليوم، لا يمكننا سوى التكهن حول هوية/ات ضحايا سابقين، قد يكون حظهم العاثر أوقعهم في قبضة هذا الفريق.

كانت هناك عدة أسباب وراء اعتقاد الجناة بأنهم سيفلتون دون عقاب من عملية القتل البشعة هذه. أحد تلك الأسباب تتعلق بمهنتي  مهنة الصحافة.

عندما بدأت متوالية اعترافات قتل خاشقجي، سارع العديد من الصحافيين العرب للدفاع عن الرياض. لم يكونوا مطلعين على تفاصيل المأساة، لكن من الواضح لي أن معظمهم كان يكتب ما كان يوحى إليهم. وكلّما انزاحت الرواية الرسمية تحت وطأة الانكشافات المتتالية، نزع الصحفيون لتغيير مقارباتهم تماشيا مع المستجدات دون أدنى درجات الشعور بالحرج.

كل التصريحات الرسمية  كانت كافية بالنسبة لهم دون أن يتبادر إلى ذهنهم الرغبة في طرح أي تساؤل.

لكنهم لم يكونوا وحدهم. فالسعودية لها فريق ثان – وإن كان أقل عددا- من الصحافيين الغربيين المؤثرين ممن هبّوا للدفاع عن الرياض بعد أن أمضوا عاما على الأقل في ترويج قصّة أعيد تغليفها وتعليبها عن “مملكة تخوض غمار الإصلاح”، وهبوب رياح التغيير على كامل التراب السعودي، بما يعكس رؤى تدمع لها العين لضخامتها وحجم أهدافها.

“في كل مرة نخفق في المساءلة والتقصي والكشف، فإننا نساعد في وقوع ضحية أخرى غير محظوظة، ونقدم على خذلان رسالتنا وتشويه مهنتنا”

لكن هذا السرب من الصحافيين الغربيين تجاهلوا الحملة الجديدة الشرسة التي لاحقت المعارضين والنشطاء المحليين، ونساء كافحن لسنوات لنيل حق قيادة السيارات في بلادهن، علاوة على ما ينجم يوميا من ضحايا في اليمن.

كان علينا أن نقرأ تقارير المنظمات الدولية المدافعة عن حقوق الإنسان لنكتشف إخفاق صحفيين عرب وبعض زملائهم الغربيين في سرد ونشر ما حدث.

وسط هذا الكم الكبير من الصحفيين المصرّين على النظر صوب الجهة الأخرى بعيدا عن الحقائق، يمكننا فهم أن من قرّر اغتيال خاشقجي فعل ذلك وهو على قناعة بأنه لن يحاسب.

لماذا سيهتم الصحفيون بتغطية جريمة قتل واحدة في قنصلية السعودية بإسطنبول بينما يخفقون بصورة ممنهجة في كشف معاناة آلاف المدنيين الذين يسقطون في اليمن وفي أماكن أخرى يوميا؟

لذلك، نتحمل نحن، من اخترنا العمل في مهنة الصحافة، اللوم عن قرار تصفية خاشقجي. في كل مرة نخفق في المساءلة والتقصي والكشف، فإننا نساعد في وقوع ضحية أخرى غير محظوظة، ونقدم على خذلان رسالتنا وتشويه مهنتنا.

من منكم يذكر جريمة تعذيب الطالب جوليو ريغيني وقتله في القاهرة عام 2016، وما أعقبها من سلسلة تصريحات وشروحات متباينة صدرت عن السلطات المصرية وصحافتها الموالية!

من منّا تقصّى جريمة القتل تلك كيما يحاسب الذين اقترفوها؟

بالتأكيد لسنا نحن!

من ستكون الضحية القادمة؟

ندرك أن مهنة الصحافة ليست سهلة في أي بقعة من العالم؛ حتى في أمريكا. لكن لا يوجد مكان على هذه الكرة الأرضية قابل للمقارنة مع ما يحصل في العالم العربي، عندما يتعلق الأمر بتكميم الأفواه، غياب وتغييب حرية الصحافة وسيف الخطر المسلط على رقاب الصحفيين.

خلال السنوات السبع التي أعقبت ما عرف ب “الربيع العربي”، تلاشى الأمل أمام تعمق الشعور بخيبة كبرى. كمواطنة أردنية، عشت تراجع الحريات العامّة والإعلامية على نحو يبعث على القلق.

كصحافية، بت اليوم أعمل تحت ضغوط رسمية لم أعهدها منذ بدأت حياتي المهنية عام 1984.

المفارقة أن كبار المسؤولين، يبدون دهشة من الشكوى بأن حرية الإعلام في تراجع، وكأنهم يتعامون عن الحقائق والمؤشرات الدولية لقياس حرية الرأي والتعبير.

السنوات الماضية كانت الأصعب في مسيرة شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج)، ذلك أن غالبية الحكومات العربية سنّت قوانين وتعليمات، نعدّها نذير شؤم لجهة حجب المعلومات، فرض الرقابة أو انتشار رقابة ذاتية بين إعلاميين، اللجوء إلى التهديد، التعذيب، السجن وحتى  الغرب سيشيح النظر عن تجاوزاتهم. فالمصالح تسمو فوق المبادئ في هذا العصر الرديء.

الولايات المتحدة ودول أوروبا أكثر اهتمامها اليوم بصيد صفقات تجارية مليارية مع أنظمة متخمة بالمال في المنطقة. تتصدر أولويات هذه الدول محاربة الإرهاب العابر للقارات – وبعضه من صناعتها- ووقف تدفق اللاجئين السوريين إلى بلادهم. أما المجتمعات العربية الغارقة في الغيبية والخنوع، فلا تساعد كثيرا على تعرية الحكومات. لا توجد مطالب مجتمعية بإجراء تحقيقات استقصائية تكشف ممارسات حكومية مغلوطة وقضايا فساد. أدمن المجتمع المنقسم عاموديا على جرعات متناقضة بين فيديوهات موسيقى أو برامج تلفزيونية ترفيهية، وبين تجييش غيبي ودعوات بالتكفير عبر العالم الافتراضي.

السلطات سعيدة بهذا الانهيار المجتمعي. وتفعّل القوانين انتقائيا كما يحلو لها.

وهكذا تتعقد الخيارات المتاحة أمام الصحافيين العرب هذه الأيام، وهم في وضع لا يحسدون عليه: إما مع النظام/ الحكومة وإما يصنفون ضمن الخندق المعادي للوطن.

تحثّ شبكة أريج معشر الإعلاميين على رفض ثنائية الخيار هذه. فدورنا حراسة المجتمع، كشف الإخفاقات، المطالبة بالحلول، نبش ممارسات الظلم التي تؤدي للقهر والتعاسة، وكذلك توفير منصات لمن لا صوت لهم ولفاقدي الأمل. كما أن دورنا مساءلة الفاسدين والمهملين وغير الأكفاء حتى يقوموا بمهامهم.

في غالبية دولنا، بات ينظر للإعلام المنقسم على أسس سياسية وأيديولوجية – محليا وعلى مستوى المنطقة- على أنه مصدر لزعزعة الاستقرار وشحن الخلافات والتناحر الداخلي. وتغيب الحقائق خلف هذه الفزّاعة.

يرثي الإعلاميون هنا لانهيار معايير المهنية وتراجع قيمها وأخلاقياتها بصورة مرعبة، وسط غياب أي آلية لتنظيم هذه الصناعة من الداخل. لكن هذه الانتكاسات المتناسلة لا تعطي مبررا للعقبات التي تعترض صحافيي أريج يوميا أو ممارسات التسلط التي يواجهونها أثناء بحثهم ومحاولة توثيقهم للحقائق لكشف قضايا تهم الرأي العام وصولا إلى تفعيل مبدأ المساءلة؛ جوهر عمل السلطة الرابعة.

في خلفية هذا المشهد الإقليمي والدولي السوداوي، ينعقد ملتقى شبكة أريج الحادي عشر في الأردن بين 30 تشرين الثاني/ نوفمبر و2 كانون الأول/ ديسمبر بعنوان: “مستقبل صحافة الاستقصاء؛ الاتجاهات السائدة، الأدوات ونظم التكنولوجيا”.

الأريجيون – وفق تسمية عديد الصحافيين المدعومين من الشبكة- يستحقون دعما غير عادي وميداليات شجاعة على انتمائهم المهني ونزاهتهم الشخصية ومقارعة المستحيل في واحد من أخطر أقاليم العالم.

نرفض الجلوس في شرفة المشاهدين، ففي ذلك خيانة لميثاق الشرف ولمبادئنا المهنية. سنتحوط للأسوأ ونستمر بالضغط لتوسيع هامش الحريات الصحافية في دول نسعى لأن تكون قائمة على المواطنة، القانون والحاكمية الراشدة، فصل السلطات، الكرامة والعدالة الاجتماعية.

نشر هذا المقال لأول مرة على موقع سي ان ان عربي وتم إعادة نشره بعد الحصول على إذن.

رنا الصباغ ، صحفية  تعمل كمديرة تنفيذية لشبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج)، وهي أول رئيسة تحرير لصحيفة جوردان تايمز، وكانت أول امرأة عربية تدير جريدة سياسية يومية، عملت مراسلة لرويترز وتايمز (لندن).

إعادة نشر مقالتنا عبر الانترنت أوطباعة تحت رخصة النشاط الابداعي

إعادة نشر هذا المقال


Material from GIJN’s website is generally available for republication under a Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International license. Images usually are published under a different license, so we advise you to use alternatives or contact us regarding permission. Here are our full terms for republication. You must credit the author, link to the original story, and name GIJN as the first publisher. For any queries or to send us a courtesy republication note, write to hello@gijn.org.

إقرأ التالي

ورقة نصائح الأمن والأمان نصائح وأدوات

كيف يمكن للصّحفيين أن يعتنوا بأنفسهم عند التّحقيق في الصور القاسية للحرب والصراع

يواجه خبراء المصادر المفتوحة كمًا هائلاً من الصّور القاسية. فكيف يمكن للصّحفيين حماية أنفسهم من الأذى الناجم عن مشاهدة الصّور الصّادمة باستمرار؟
التّحقيقات مفتوحةُ المصدرِ التي كانت في السابق محصورةً بمواقع متخصّصة مثل Bellingcat، دخلت عالم الصحافة السائدة، مدفوعة بالحاجة إلى التحقُّق على الفور من كميات كبيرة من الصور ومقاطع الفيديو والادّعاءات. بات لدى وسائل الإعلام الكبيرة مثل بي بي سي ونيويورك تايمز فرق مخصصة للتّحقيقات البصريّة، وتزايدت أهمية عملها في سياق حرب المعلومات.

العثور على سجلات أمريكية لمتابعة التّحقيقات العابرة للحدود

دليل لبعض مصادر البيانات الحكوميّة الأمريكيّة التي يمكن أن تساعد الصّحفيين الأجانب والأمريكيين في تغطية الحروب الأمريكيّة ومبيعات الأسلحة وتأثير السياسة الخارجيّة الأمريكيّة.

رون ديبرت في الجلسة الافتتاحية #gijc23

الأمن والأمان

أزمة القرصنة العالمية: كيف يمكن للصحفيين الاستقصائيين مواجهتها

تم تحذير أكبر تجمع على الإطلاق من الصحفيين الاستقصائيين من أنهم يواجهون وباء التجسس السيبراني ، ويجب أن يذهبوا إلى الهجوم لفضح الممثلين السيئين الذين يسعون إلى تقويض الأمن الرقمي.